محمد حسين الداغستاني
إمعن النظرَ في هذا الوجه / إحترقت القصيدة / وتناثرتْ مثلَ رماد بوذي / المهم / هذا هو الذي حفر قعراً من الإندهاش / في الوجوه / قبل أن يغادر المكان !
عباس عسكر / ديوان هجرة الطائر الأزرق
كنت أتخيل دوماً ويبدو إنني كنت على صواب بأن عباس عسكر (**) هذا الشاعر المهوس بالترحال، كان يحرص في مشروعه الإبداعي على الفرادة ، تُعينه في مسعاه بصيرته النفاذة التي كان يتصف بها ، لذا كانت المفردة التي يؤسس عليها نصَه تشبه نزع القشرة الخارجية عن الكلمة ، والنفاذ الى داخلها ، وإكتشاف أسرارها ، ومنحها طاقة مضافة للتعبير عن حالاته السايكولوجية المختلفة والمتباينة من الحزن والفرح أو التوق والتريث أو التغيير والتمدد على بساط الجغرافيا الفسيح منقبا عن حب تائه في مفازة .
وعباس عسكر ، الذي كان مدمناً على الألم الصبور ، عّبر خلال مفردته المدوية الساحرة عن وجعٍ يليق بالنبلاء من الشعراء ، توجعً تشظى على مسامات الناي القديم ، فأيقظ غابة من الأحزان ، ليتحول الى خالق اللحظة البكر التي تضئ الروح في ظلام ملأ بقاع النفس :
دثريني بكلماتٍ نديانة
إنني أرى كل الأسفارَ في وجهكِ المشرق
وأنالُ حزناً بلا قعرٍ
إبتعدي ، أخافُ أن تحترقي
في صلاة إنتظاري.
هذا التناقض الشكلي أبعد ما يكون عن نصوصه المبتكرة رغم أنه يشي بدواخله الدفينة ، فهو بحاجة ماسة الى مناغاتها ووجهها الذي يرى فيه كل أسفاره إلا ّ أنه يلح على إبعادها ، ويجب أن تبقى كذلك لكي تنأى بنفسها عن جمرته المتوقدة .
ورغم أن عباس عسكر لم يكن رومانسيا في التوصيف الشعري والأدبي ، إلا أنه كان شغوفا بالرومانسية ، يوظف أدواته اللغوية والبلاغية في تجسيد معاناته كإنسان مغترب يسير فوق حمم الألم وقيظ الوجع ويتطلع الى الراحة والأمان .. لهذا فقد كان يداهن الواقعية ويتطلع الى الحداثة والمعاصرة إلا أنه كان يتمسك بأذيال الرفعة الكلاسيكية في إنتقاء المفردة وتوظيفها في النص :
ستعلمين يوماً
إني كنتُ صادقاً في رحلة التعب
ولكن عيونك الحزينة
ترفض المسافات
في تدوين ملحمتي الفريدة
على تيجان الزهور القانية .
لقد عشق عباس عسكر قصيدة النثر إلا أنه تميز عن الكثيرين من معاصريه في التركيز على تكثيف المضمون وإختزال الكلمات للتعبير عن رؤوى ومدلولات ومعان تمتد على مساحات واسعة في أقل حيز متاح ، وبذلك كان يضخ الى المتلقي بفكرة شاملة ، وواضحة ، بعيدا عن التعقيد والغموض ، وتلك موهبة فريدة أتسم بها أسلوبه في الكتابة والنظم . ذلك لأنه أدرك سرّ الحرفة ، فبقي متمترساً خلف اللغة ، تلك الواسطة المتمردة الصعبة المراس ، التي أجادها بإمتياز ، فأضاف من روحه على الحرف دينامية العاشق ، وعنفوان الفتوة ، وإستطاع شحن الكلمة بقدرة كبيرة من التأزم ، ليحرك أحاسيسه ، مشاعره ، آماله وأحلامه ، روحه الوثابة بإتجاه النضارة الفريدة التي شكلها توقه الأبدي الى السفر ، وكان آنذاك في قمة تعبه ، وصدقه :
أيا عبقر القصيدة
في غايتك المشتبكة
سأشد الرحال
في مسافة عشقٍ بري
كي أتقن ما تكنه الساعات المرتبكة !
و
من أنت لكي تختال في وسط الطريق
في رعشة الكبرياء
الحقيقة ... أن تتعانق الإبتسامات
لتكتف كل وجه قابع/
خلف كل باب موصد
لا يرحل في الريح .
هنا أتفق أنا مع اناتول فرانس في أن اللذة التي يعطيها الأثر هي المقياس الوحيد لتقييمه ، وعلى الضد من جلّ الشعراء من أبناء جيل عباس عسكر الذين إتخذوا الكتابة الشعرية على مقياس التراكم اللغوي الذي يتضمن كمـّا ًمن الكلمات المتراكمة... لإن الإجادة في قناعتهم تكمن في القدرة على التلاعب اللفظي وطغيان الإبهام على القصيدة لتصبح مجرد أحجية . فيما إلتحمت في نصوص مجموعة عباس عسكر الشعرية مفاهيم الصلة الإنسانية الحميمة مع عناصر الرؤية والدهشة ، والتلاشي في سويداء الكلمة ليرتقي بالفعل الى مستوى المتعة الذهنية من خلال خلق صورة متكاملة للبعد السايكولوجي للمفاهيم التي أسس عليها نصوصه :
العجوز الجالس
على عتبة الباب
حزنه شديد
عيناه على الطريق
الإنتظار ، أشواك ، ألم في القلب .
و
العاشق
يغسله عرق الرحلة
برماد الأرق
يصقل جسده
المهتز ، الساكن ، المنبهر، المتعب
ونوبات القلب
تحتمي بفقاعات الجراح .
هذان النصان وغيرهما كما يبدوان يفيضان بالتلقائية ومن ثم القصد ، إنهما يسلطان على جذوره الداخلية العميقة قدرته على إستنباط المفردة الزاخرة بالحزن الآ سر، فالشاعر يرى أن الحزن وحده يؤلف القلوب ويقرب الأفئدة ، وقد أكد هذا المنحى عندما كتب لي على صدر ديوانه (احاديث أوراق مرتعشة) : يقول أحد النقاد ( إن الشعر ينسق أحزان العالم ) أعتقد أن الشعر نسّق أحزاننا أخوة صادقين ، فمهما تغيرت الدنيا والخلق ســـنبقى كما كنا ..... ) وكان يعني إننا أخوة في الألم قبل أن نلتقي في سعير الكلمة ، وكان يعني أيضاً أن الصدق يكمن في العلاقة المديدة في زمن يفتقر الى النبل في التواصل ، والأهم منهما إنه كان يمتلك الإرادة ليؤكد ثباته على قيم الفرسان .
وخلال لقاءاتنا الشخصية ، كنت ألمس أيضا رغبة عباس عسكر الدفينة في الإمتداد عبر التضاريس وتجاوز ما يمكن أن أطلق عليه حدود الجغرافيا الساكنة أو لا جدوى المكان ، والتأكيد في أغلب نصوصه على السفر والرحيل والهجرة الى عوالم جديدة حالماً بالإنعتاق والحرية . لكنه كان يعاني بشدة من محنة أعباء القيود الإجتماعية والحياتية التي تشل حركته ، ولأن للسفر أو الإغتراب دلالاته الفكرية والفلسفية التي تؤشر الى الهروب من الذات او من أسر المكان ، لذا فإن تفسيرالفيلسوف الألماني هيغل لفكرة الإغتراب في كونه تصدع وإنهيار في العلاقة العضوية بين الإنسان وتجربته الوجودية ، أو هي علاقة تنافر مع البنية الإجتماعية السائدة ، قد تكون ألهمت الشاعر وفق هذا المنظورللتطلع الى إكتساب مغزى لوجوده الإنساني بعيدا عن مجتمع يجد نفسه غريبا بين ناسه ؟ :
أيتها الروح
غربتك المعفرة بالحمى
صدى هديرها
شردني صبيا
فأنهشني عناء النجيّة
يغسل الجروح
جرحا بعد جرح
تُرى من يحرث تغضن الروح ..
كي تتشظى أوصال الجسد ..
لسفر جديد ؟
إذا ً، السفر الجديد كان هاجس عباس عسكر الدؤوب ، الذي أقحمه في جل دوواينه ، ليعود ويغمسه في الاساطير و نجيع الميثولوجيا الأغريقية ، فيستلهم صورة أورفيوس الكاتب والموسيقي والنبي وفق الديانة اليونانية القديمة ، ومؤلف أجمل الأغاني لزوجته الحسناء ليورودس ، ليمنحه إشارة الإنتظار للرحيل مجددا َ :
وأشرب مطر المسافات البعيدة
وأرسم صورة ( أورفيوس)
على جبين الأرق
منتظرا
زقزقة عصافير الغسق
لسفر جديد .
ويمتلك شاعرنا قدرة فريدة على إخضاع نصه لموجبات شبكة من العلاقات الداخلية بحيث ترتقي جدلية الصلة الحية بين ملكة خلق الصور الذهنية والواقعية في متن النص وبين الحلم الرومانسي الذي يستطيل فوق مفردات منتقاة بمهارة للتعبير عن حالة مشحونة بالتأزم ، فيمتزج بجدارة فائقة صورة جزيرة قصية وسارية تمخر عباب العواصف ، وبين نظرة عين الحبيبة النافذة ولكن من خلال سحنة حزينة تلتمع كجمرة نار الصبوة والعشق المفتون والسفر الذي لا يغادر مخيلته :
تأملت كثيرا/
في جسد حلم جزيرة
ولما سمعتُ صدى إرتجاج الصلاة
في عينيها
أطلتّ ساريتي
من تحت عواصف الزمن
فعثرت على صبوة شوقي
لأن أسافر من جديد في سحنتها الحزينة .
إنها الشراك التي ينصبها لنفسه ، لإنه لا يترك لها خيارا ، فهو يشحن ذاته المنهكة أصلا بقدرة إضافية على التأزم ، ليشرع في إذكاء ضراوة صراع يقوده الى يأس مرير، يأس يدفعه الى خيار الإنعتاق من أغلال الشعر ، رافعاً الراية البيضاء ، معلناً عرض قصائده على منصة المقايضة والمزاد :
تعبت رجلاي غاصتا
في نزيف السفر
نقمتي أن أظل محبا للجميع
ترى من يشتري قصة أسفاري ؟
من يشتري قصيدة
لقاء دعوة
لسفر جديد.
لقد إلتحم السفر لدى عباس عسكر مع فرضية الموت أيضا كما في بعض نصوصه المبكرة وكان لا يزال في ريعان شبابه ، ورغم أن المفردة كانت تتلاشى أحياناً في سويداء كلماته إلاّ أن أطلالته بين آونة وأخرى في متن بعض نصوصه كانت أشبه ما تكون بالصاعقة والذي وقعه كان أشبه ما يكون بإنفجار قذيفة جبارة في جوف وادي سحيق . ففي العام 1959 كتب يقول :
من قبل ألف عام
مرّ من هنا رحالة
صدره كان يفيض بمآثر الرجال
وحروب فاصلة
لكنه لم يتكلم
عن عاشقٍ مات
فما تمكن من إقناعنا
فمات في صومعة الزمان .
كان يتكلم بحدس الغد الآتي فها هو يرحل عن دنيانا قبل أن يودعنا ، فالجلبة خفت من حوله كثيراً وإنطلق هو الى دنيا جديدة حيث ..
تموت ضجة الأشباح الأليفة
يمتطي ظهر مهرة سحرية
يقتحم مدن الأبواب العنيدة
ويدرك القصيدة المستحيلة ...
لقد أدرك عباس عسكر القصيدة المستحيلة فعلاً ، لكنه في مآل الوقائع إختار الرحيل ، فأحدث بموته دوياً في الدخيلة والنفس ، بعدما غادرنا متلفعاً بالقلق على قصائده العذرية التي لم يكن قد كتبها بعد ، وحاملاً نبوءته تحت إبطه ، فالقادم من الزمان يطلق من قمقم خرافي غولاً يكره الشعر ويجافي الحب ، يهرس الأزهار في البراري الموحشة بقدميه الضخمتين ، ويشيع الحرف الندي في تابوت أنيق الى لحد قريب في زمن
تتلظى فيه الأفئدة من الهيام
والأرض تستحيل حديقة من الأزهار.
لهذا فقد قال :
فلنسافر
قبل إحتضار الشوق
قبل تشييعه
على تابوت من القصائد العذرية .
نعم إنه زمن الحزن والرحيل والتشتت ، حيث يعيش فيه الشعراء دون أحبائهم ، ويستحيل الموت أيضاً الى أيقونة وجع آسر لسفر جديد نحو المجهول !
ـــــــــــــــــــــ
(*)نشر المقال في عدد جريدة الاتحاد اليومية 3929 الصادر في 3/1/2016
(**)ولد الشاعر الراحل عباس عسكر في مدينة خانقين في العام 1939 م وتوفي في كركوك التي عاش فيها في العام 2007 م وهو العام الذي نشر له إتحاد الأدباء الكورد فرع كركوك مجموعته الشعرية الكاملة التي ضمت دوواينه العربية الأربع ( هجرة الطائر الأزرق) و (وردة المطر) و( أحاديث أوراق مرتعشة) و (كلمات تعدو نحو الينابيع) .
3164 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع