علاء الدين الأعرجي
محام/ مفكر عراقي متخصص بقضية تخلف العرب
كُلَّما أَقرأُ أو أسمعُ عَن اكتِشافٍ عِلمِيٍّ أو إنجازٍ تِقانِيٍّ (تِكْنولوجِيٍّ ) جَدِيدٍ—وَما أكثرَ ذلك في أيّامِنا هذه! — ينْتابُني شُعورٌ مُمَـــزِّقٌ (بكسر الزاء) مُزْدَوِج: بالغِبَطةِ والتَفاؤلِ مِن جِهَةٍ، وبالحزنِ والتشاؤمِ من جهةٍ أُخرى.
فالأوَّل، نابعٌ من شُعوري كإنسانٍ عاديّ، يَعيشُ في قَلْبِ هذا العالَمِ المُتفَجِّرِ في جَميعِ المَيادينِ، وبِخاصَّةٍ العِلْميَّة والتكنولوجية، الأمرُ الذي يُؤَدِّي إلى زيادَةِ مَعرِفتِنا بهذا الكون الهائلِ المحيطِ بِنا، واكتشافِ بعضِ أَسرارهِ وخَفاياه: صُعوداً—إنْ صَحَّ التَعبيرُ—إلى بلايينِ المَجرَّاتِ والثقوبِ السَوداءِ والعوالِمِ العجيبةِ التي تفوقُ الخيال، وَنزولاً إلى أَصغرِ أَجزاءِ الماَدَّةِ التي هي وَجْهٌ من أَوجُهِ الطاقَةِ المَحْبوسةِ، ودُخولاً إلى نُوَيّاتِ الخَلايا الحَيَّةِ لِفَكِّ أسْرارِ الشِّفْرةِ الحَياتِيَّة. كما يُسفِرُ هذا التقدم َ عنْ تَفهُّمِ جَوانبِ ارتباط الأسبابِ بالنتائِجِ في جَميعِ الظَواهرِ الطَبيعيَّة، وَبِالتالي إلى رُقيِّ العَقلِ البَشريِ وتَعزيزِ المَعرِفَةِ الإِنْسانيَّة، واختراق آفاقٍ جَديدةٍ في شتَّى مَيادينِ الحياة.
أمَّا في المجالِ التطبيقيِّ فإنَّ تطوُّرَ العلوم والمَعارف أسفَر، كمَا هو مَعلوم، عن مُكتشَفاتٍ ومُبتكَراتٍ تِقانيَّةٍ شامخةٍ ومفيدةٍ لا حَدَّ لها، سواءٌ في مَيادينِ تَسهيلِ الحياةِ العمليَّة، أو تحقيقِ الرفاهيَّةِ لنسبةٍ عاليةٍ من البَشَر، ابتداءً من فوائدِ الطاقةِ الكهربائيَّةِ المتعدِّدة، إلى الاستخداماتِ المتَوَالِدةِ للأقمارِ الاصطناعيَّة، إلى برامج الحاسبات المتقدمة، إلى الهواتف الذكية، إلى مُعالجةِ الأمراضِ والجِراحةِ الدقيقة بالليزر، وزَرعِ الأعضاءِ البَشريَّة، والهندسة الجينيَّة، ورَدمِ المسافاتِ الجغرافيَّةِ والفكريَّةِ والثقافيَّةِ بين البَشَر، الأمرُ الذي أصبحَت فيه الأنباءُ الخاطفةُ، والمعارفُ الأساسيَّةُ والمعلوماتُ الدقيقة، في مُختلفِ الميادين، مُتاحةً لمعظم الناسِ تقريبًا، دونَ أن تتمكَّنَ أيُّ سُلطةٍ من السُلطاتِ المستبدَّة من احتكارِها أو مَنعِها، وعلى نحوٍ أصبحَ فيه العالمُ بحقٍّ قريةً صغيرةً، كما يُقال. وكلُّ هذا يؤدِّي إلى تفاعُلِ الثقافاتِ وتلاقُحِ الحضاراتِ وانطلاقِ الحِوَاراتِ وانفتاحِ الأفكارِ وتفجُّرِ الطاقاتِ الجماعيَّةِ والفرديَّة.
أمَّا الشعورُ الثاني، الذي يتَّسِمُ بالأَسى والسَّوداويَّة، فإنَّه نابعٌ من كَوني إنساناً عربيًّا يَعي حقيقةً صارخَة ترتبطُ ارتباطًا وثيقًا بظاهرةِ الثورةِ العلميَّةِ والتِّقانيَّة، ونادرًا ما تتـناولُها، حسبَ عِلمي، أقلامُ الكُتَّابِ والمفكِّرين.
هذه الحقيقةُ مَفادُها أنَّ كلَّ تقدُّمٍ عِلميٍّ أو تِقانيٍّ يُحقِّقهُ الغَربُ يُؤدِّي إلى تزايد الفجوة الحضارية بيننا وبينه، لأننا لا نشترك فيها كمنتجين، بل كمستهلكين فقط، ما يُسفِر عن زيادة سيطرته على مقدراتنا، بقدراته العالية، ومنها التكنولوجـــيّــة، فالعسكرية فالمعلومياتية فالمخابراتية . ومن ثَمَّ، زيادة استغلاله ثرواتنا الطبيعية والبشرية، ما يؤدي إلى تفاقُمِ الأزمةِ الخانقةِ التي تُعاني منها أُمَّـتُنا العربيَّة، وبالتالي يزداد تخلفنا، أو بالأحرى نعيد إنتاج التخلف. وهكذا تتكرر الحلقة المُفْرَغة القاتلة للضعيف، والمجزبة للقويّ، الذي يتمثل بإسرائيل وبعض الأنظمة الغربية، التي تهدف إلى تدمير الآمة العربية، لتبقى إسرائيل سيدة الموقف.
وهكذا تنادى نخبة من المثقفين العرب في واشنطن لإنشاء " مجلس الفكر العربي" بمبادرة من أ.د. محمد ربيع. حيث يعتبر خطوة أولية نحو تحقيق "مشروع المؤسسة الموسوعية في المهجر"، الذي كنا وما نزال ندعو إليه منذ أكثر من عشرين عاماً. ونشرنا فيه عدداً من المقالات والدراسات في صحيفة القدس العربي الغراء منذ عام 1995 ، كما لنا فيه كتاب تحت الطبع. ولنا عودة إلى هذا الموضوع في المستقبل.
ملاحظة: موضوع تَفَجُّرُ الثَّوْرَةِ العِلْمِيَّةِ وَالتِّكنولوجية نِعْمَةٌ لنا أم نِقْمَة علينا"، هذا الموضوع، مُعَالَجٌ بالتفصيل في الفصل الأول من كتابي " الأمة العربية بين الثورة والانقراض" المتاح أدناه:
https://drive.google.com/file/d/0B7-yP9NKQgUrR1lITUlkNmUyWjA/view?usp=sharing
835 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع