بدري نوئيل يوسف
اللص العنيد
حدثتنا جدتي بعدما عادت من زيارة أبو البنات الراقد في المستشفى، وكان سبب رقاده أنه تخاصم مع صديقه بسبب خلاف وقع بينهما، حول سؤال، هل الحدث في الرابع عشر من تموز 1958 كان ثورة أم انقلاب عسكري؟ وأصر أبو البنات أن الحدث كان انقلاب عسكري وليس ثورة، وعلى اثرها تخاصما وضُربه صديقه على رأسه بواسطة عصا فقد الوعي لعدة ساعات بالإضافة للجرح الكبير الذي خلفته ضربة العصا.
قالت جدتي: تذكرت هذه الحادثة في عام 1958 أي بعد مجيء عبد الكريم قاسم للحكم، خرجت تظاهرة في شارع الرشيد تهتف بحياة الزعيم، وأصوات الهتافات تتعالى تحي الثورة والأخوة العربية الكردية، والتظاهرة قادمة من ساحة الميدان نحو شارع الرشيد باتجاه الباب الشرقي، انتبه بعض الشباب أن رجلا يلبس الزي الكردي واقف مع صديقة عند حافة الرصيف يتفرج ويشاهد المسيرة الضخمة التي تمر أمامه، وبدون مقدمات حمل بعض الشباب الرجل الكردي على اكتافهم طالبين منه ان يهتف، وأثناء حمله خُلعَ كلاشه من رجله وسقط بين المتظاهرين، وكم حاول النزول من اكتاف الشباب لم يفلح، التفت نحو صديقة يناديه بصوت عالي قائلا:
بين ساحة الامين وحافظ القاضي، كلاشكم، ( قصده أن بين هذه المنطقتين سقطت كلاشه " الحذاء") ، رد عليه المتظاهرين كلاشكم، ويصرخ الرجل بصوت عالي:
ها، ها بين ساحة الامين وحافظ القاضي، كلاشكم، رد عليه المتظاهرين كلاشكم، ولا من يسمع أو يجيب له وضاع الكلاش. وبقى الرجل حافي القدمين .
(الكلاش: حذاء من الفلكلور الكردي يعود تاريخه إلى زرادشت توارثها الأبناء عن الآباء والأجداد طوال حقب التاريخ).
بعد حادثة ابو البنات والتظاهرة قالت جدتي: تذكرت قصة السلطان والجارية التي اجابت على اسئلته وأن البلد الامين الذي لا يحكمه الجهله .
قالت: سمع أحد السلاطين بأن في السوق جارية سعرها يتجاوز سعر مائة جارية! فأرسل السلطان يستقدمها ليرى ما يميزها عن سواها؟ فوقفت أمامه وشموخها لم يعهده من الجواري الاخريات، فسألها لماذا سعرك غالي يا فتاة ؟
اجابت لأني اتميز بالذكاء! أثار كلامها فضوله وقال سأسألك لو أجبتِ أعتقتكِ ولو لم تجيبين قتلتك! قالت له: موافقه.
سألها: ما هو أجمل ثوب وأطيب ريح وأشهى طعام وأنعم فراش وأجمل بلد؟ التفتت الجارية إلى الموجودين وقالت حضروا لي متاع وفرس فإني مغادرةٌ هذا القصر وأنا حُرة! أما أجمل ثوب فهو قميص الفقير الوحيد الذي لا يملك غيره فأنه يراه مناسباً للشتاء والصيف، أما أطيب ريح هي رائحة الأم حتى لو كانت نافخة النار في حمام السوق، ما أشهى طعام ما كان على جوع فالجائع يرى الخبز اليابس لذيذ، أما أنعم فراش ما نمت عليه وبالك مرتاح فلو كنت ظالم لرأيت فراش الذهب شوك من تحتك، سارت نحو الباب فناداها السلطان لم تجيبين سؤالي الاخير؟
ألتفتت وقالت: أجمل بلد هو الوطن الحر الذي لا يحكمه الجهلة، قال لها: أجادت الجواب فنالت حريتها.
نعم صدقتِ أجمل بلد الوطن الذي لا يحكمه الجهلة.
نعود يا اولادي لحكايتنا الاسبوعية .
كان يا ما كان، يحكى أن لصّاً غضب من كلب كان يحرس أحد البيوت التي كان يحاول سرقتها، في احدى الليالي رأى اللصُّ أحد البيوت هادئاً ساكناً، ويعرف صاحبه غني، اقترب منه محاولاً تسلُّقَ سياجه، غير أن كلباً ضخماً شرساً انطلق من فناء البيت وهجم عليه، ولم يتخلص إلا بعد أن رمى بنفسه رَمْيَاً من فوق السياج، ولحق به أذى كثير بعد اصطدامه بالأرض، في الليلة الثانية تسوّر اللصُّ البيتَ من مكان آخر، لكنّ الكلب هجم عليه أيضاً، بالقوة والشراسة نفسها، في الليلة الثالثة، وكان الكلب الشرس له بالمرصاد، مثل الليلتين السابقتين، اغتاظ اللصُّ من هذا الكلب، وأقسم أن يعاقبه عقاباً يجعل جميع الكلاب تتوب توبةً نهائيةً من التصدّي للّصوص العنيدين مثله.
فكّر اللصُّ كثيراً في وسيلة ينتقم بها من هذا الكلب، يفرِّغ بها كلَّ الغضب والغيظ، وكلَّ الحقد الذي امتلأ به قلبه الشرير، ففكّر أن يضربه بعصا في رأسها، وفكّر أن يطعنه بخنجر في بطنه، وفكّر أن يقدّم له طعاماً مسموماً.
ثم قال مع نفسه: سأجعله يتعذّب طويلاً ويتألم كثيراً، قبل أن يموت، فجلب قطعة لحمٍ شهيّة وضع فيها إبرةً طويلةً حادّة ورماها من وراء السياج، وصادف أن صاحب البيت كان مارّاً في المكان وراء سياج بيته في تلك اللحظة، ورأى قطعة اللحم والإبرة فيها، نظر باحتراس، فرأى اللصَّ، وعرف غايته، فترك قطعة اللحم، والإبرة بها في مكانها، وحبس كلبه في بيته في ركن الحديقة، لما رأى اللص العنيد الهدوء يشمل البيت، رمى حجرة ثانية وثالثة، فلم يسمع صوتا أو نُباحاً، فعرف أن الكلب اختنق بالإبرة التي ظنَّ أنها اخترقتْ بلعومه، وهكذا أسرع يتسلق سياج البيت، ويلقي بنفسه إلى الأرض بقوة، سقط اللص فوق الابرة الموجودة في قطعة اللحم واخترقت باطن قدمه، وشعر بشلل ساقه كلّها، وبعاصفة من الألم، ونَزَف كثيراً من الدم، وأخذ يصيح مستنجداً، وهنا أسرع صاحب البيت إليه يضحك ساخراً ويقول:أردت أن تؤبّر كلبي الشجاع الأمين فأبّرت قدمك يا شرير، لقد أخذت جزاءك، ونلتَ ما تستحق، لكي تتوب ولا تفكّر في ايذاء اي إنسان أو حيوان يدافع عن نفسه وحقّه.
2138 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع