حامد خيري الحيدر
في مطلع التسعينات من القرن الماضي، ولم يكن قد مضى على عملي كمنقب آثار في الهيئة العامة للآثار والتراث سوى بضعة أشهر، حدث أن جاء يوماً أحد الزملاء الى قسم التنقيبات والتحريات الاثرية حيث كنت أعمل، ليبلغ منتسبي القسم (جاء عمو علي).. فما كان من الجميع ألا أن تركوا ما بأيدهم مسرعين الى حيث يتواجد الرجل للترحيب به... بعد قليل وبدافع من الفضول سرت بخطى بطيئة للغرفة التي التقى فيها الزملاء بالضيف المجهول (عمو علي)... عند بابها وقفت أتطلع بالرجل الجالس مُحاطاً بالجميع، وهم يصغون بصمت مُطبق لكلامه كما لو كان أب يروي قصة ً مشوقة لأبنائه، فتراهم يريدون اقتناص كل كلمة يقولها. كان قد تعدى الثمانين من العمر، بسيط الملبس أنيقه.. يجلس بوقارٍ لطيف.. لم تستطع سنين الدهر التي سلبته الصحة وسواد الشعر من أن تسرق أبتسامته الطفولية الجميلة الملازمة لكلامه وحدّة ذكائه الواضحة من عينيه رغم ضعف بصرهما. بقيت بوقفتي هذه عدة دقائق مُمعناً النظر في الرجل حائراً مُحاولاً تحديد هويته، حتى أنتبه هو لوقوفي مُدركاً عدم معرفتي له، فسأل الزملاء كأنه يعرف جميع العاملين في الهيئة (الأخ جديد هنا؟)، بعد أجابتهم بالايجاب دعاني الى مشاركتهم الجلسة ماداً يده لمصافحتي والابتسامة تأبى أن تفارقه، فبادر أحد الزملاء ليزيل حيرتي، أستاذنا (محمد علي مصطفى). ما أن تفوه هذا الاسم حتى عقدت المفاجأة لساني... (أذن هذا هو العالم الكبير الذي طالما درسنا على مدى سنين الدراسة الجامعية أبحاثه واكتشافاته الأثرية وأساليبه المميزة الرائعة في علم التنقيب، والذي كان منذ ثلاثينات القرن الماضي أحد أهم ركائز وأعمدة علم الآثار في العراق ومن أوائل مشيدي ومطوري مؤسسته العلمية)... بعد أنضمامي للجلسة تابعت مع الباقين الأصغاء لحديثه المشوّق ذو الكلمات المعبرة المنتقاة، الذي غلب عليه ذكريات عمله الجميلة المضنية على مدى عقود عديدة مع آثار الوطن متنقلاً من (أريدو) الى (واسط) ثم (سامراء) و(الحَضر) التي أسهب بالحديث عنها، وغيرها من مواقع ومدن أرض الرافدين التي أفنى زهرة شبابه بين روابيها وتلولها الأثرية... ولعل أكثر ما يشّد المقابل لهذه الشخصية أضافة لعلمه وجمال كلامه هو شدة تواضعه وبساطته المتناهية، هذه الصفة التي كانت على مدار الزمن أجمل ميزات العلماء والمفكرين... لم يستمر اللقاء أكثر من ساعة حيث غادَرنا هذا العالم الجليل متعللأ بصحته المُتعبة. لكن على الرغم من قصر اللقاء والذي كان الأول والأخير لي معه ألا أنه كان كافياً ليكمل الصورة التي كنت قد رسمتها عنه في مخيلتي من خلال قراءتي لمؤلفاته وبحوثه العلمية واكتشافاته الأثرية الكبيرة ، كذلك ما قاله عنه أساتذتنا الجامعيين ومنقبي الآثار الذين عملوا معه وتتلمذوا على يديه.. كل ذلك جعلني أتأثر به الى حدٍ بعيد حتى دون أن التقيه، لأجعل منه مثلاً أعلى وقدوة أتعلم منها في مسيرة حياتي الآثارية..... بعد سنوات من هذا اللقاء سمعنا عن سوء حالته الصحية وتدهورها، ليردنا فيما بعد خبر وفاته في خريف عام 1997 بعد حياة حافلة بالانجازات العلمية.. عانى ما عانى خلالها من ظروف قاسية أحاطت به.. لم يتزوج طيلة حياته ولم يكوّن أسرة ناذراً نفسه لعلمه ومهنته التي عشقها منذ شبابه (الآثار)، ولم يتبقى له من عائلة في هذه الحياة سوى أبنة أخٍ وحيدة كفلت رعايته في شيخوخته.. عاش بسيطاً ومات بسيطاً.. كان يبتعد عن كل وسائل الأعلام فلم تجد له على الأطلاق أية لقاء أو حديث عبر صحيفة أو محطة اذاعية وتلفازية، أو حتى صورة ولو عابرة له، مفضلاً العزلة والعيش منزوياً عن الاضواء ليعمل بهدوء ونكران ذات قلّ نظيره في هذه الدنيا. كره أن ينادى بلقب (أستاذ) رغم حصوله على درجة (بروفيسور) ولم ينادى في المحافل العلمية العالمية أو يُذكر أسمه في مؤلفات الآثاريين الأجانب ألا (بروفيسور علي)، بل يفضل بدلاً عنه كما سبق ذلك اللقب المُحبب الى قلبه (عمو علي) كونه الكنية التي كان ينادوه بها عمال التنقيب.. يعتبر أقدم الآثاريين العراقيين وأجّلهم سمعة دولية حتى عُرف لدى الجميع ب(شيخ الآثاريين).. فاق بعلمه وانجازاته ومعرفته الآثارية بمراحل عديدة أقرانه من العلماء الذين زاملوه في المهنة. أضافة الى أنه كان مُرشداً وموجهاً ومُعلماً للعديد من علماء الآثار من مختلف دول العالم مثل بريطانيا وأمريكا وفرنسا الذين تدربوا على يديه، وهؤلاء تحدثوا باسهاب عن هذا العالم في معظم مؤلفاتهم واستشهدوا بأنجازاته الكبيرة، أضافة الى العشرات من الكوادر الآثارية العراقية التي تدربت على يدييه وكسبت خبرة كبيرة منه في مجال التنقيب والمسح الأثري والصيانة الأثرية.... لكن المفارقة المؤلمة جداً هي انه رغم كل هذا وما كان قد أنجزه هذا العالم الكبير على مدى سنين طويلة من الزمن إلا أنه يكاد لا يعرفه أحد غير المختصين بحقل الآثار أو من واكبوا حقبتي الثلاثينات والأربعينات وما بعدها من القرن الماضي، أما جيل الشباب فمن المؤكد أنهم لم يسمعوا حتى باسمه... ولأجل ذلك وكجزء من الوفاء، دعيت قلمي لاستذكار هذه الشخصية الفذة..... فمن هو (محمد علي مصطفى) أو (عمو علي)....
_ ولد عالم الآثار (محمد علي مصطفى) في بغداد بتارخ 28_11_1911 .... وأكمل دراسته الابتدائية والثانوية فيها.... درس الهندسة المدنية ليحصل على أجازتها عام 1935. في عام 1936 عيّن في مديرية الآثار العامة (كما كانت تسمى حينها).
_ عمل في التنقيب الأثري في مختلف المواقع لمختلف الفترات التاريخية... حيث بدأ عمله عام 1936 حتى عام 1938 ممثلا ً عن مديرية الآثار العامة لدى البعثة الأمريكية لجامعة بنسلفانيا في كلا ًمن موقعي (تبة كًورا) و(تل بلا) في شمال العراق الذين يعودان لعصور ما قبل التاريخ. للفترة 1938_ 1940 ترأس هيئة التنقيب في مدينة (واسط)، ليكشف خلال تلك التنقيبات عن عيوب بنائية في جامع (الحجّاج) فيما يتعلق بأتجاه القِبلة. كما ترأس الهيئات التنقيبية في موقعي (الدير) و(العقير) في جنوب العراق للفترة من 1940_1942 اللذان يعودان للحقبة السومرية، كما أجرى التنقيبات الأثرية في موقع (حسونة) في شمال العراق للفترة 1943_1944 الذي يعود لفترة العصر الحجري الحديث. وخلال السنوات 1944_1949 قام بتنقيبات واسعة في مدينة (أريدو) وكشف عن أهم الأبنية والطبقات الأثرية فيها، كما قام خلالها بواحدة من أعظم عمليات التنقيب في العراق، حيث كشف بمساعدة زميله عالم الآثار الراحل (فؤاد سفر) بأسلوب التنقيب المُدرّج، وهو أسلوب صعب ومعقد جداً عن ثمانية عشر معبداً متسلسلاً عند طرف زقورة المدينة تمتد فترتها الزمنية من 4500_2100ق.م. وترأس للفترة ما بين 1950_1956 أعمال التنقيب والصيانة الأثرية في مدن (سامراء) و(نفر) و(الكوفة). بعد عام 1957 وحتى مطلع الستينات قام بأعمال التنقيب والصيانة الأثرية في مدينة (الحَضر) حيث كشف الكثير من معالمها ليضع كذلك التصاميم والمخططات الهندسية لإعادة ترميم أبنيتها.
_ في مطلع الستينات من القرن الماضي، أنيطت به مهمة الأشراف العام على كافة التنقيبات الأثرية في العراق.... وكان من بين أهم الأعمال التي أنجزها خلال هذه الفترة أشرافه المباشر على التنقيبات التي اجراها عام 1967 وما بعدها (د. بهنام أبو الصوف) في (تل الصوان) قرب سامراء، والذي يعود لفترة العصر الحجري الحديث. وبقى في منصبه هذا حتى آخر أيامه الوظيفية.
_ أحيل على التقاعد عام 1973 بعد مسيرة حافلة بالعطاء... لكنه أستمر بأبداء النصح والمشورة للباحثين والآثاريين العراقيين والأجانب، خاصة في مشاريع التنقيبات الأنقاذية الكبيرة في أحواض (حمرين) و(الموصل) و(حديثة) خلال سبعينات و ثمانينات القرن الماضي.
_ نشر مئات البحوث والمقالات الآثارية وتقارير التنقيبات في مجلة (سومر) التي تصدرها الهيئة العامة الآثار والتراث، وكذلك في مجلات وموسوعات الآثار العالمية وبمختلف اللغات.. كما الف مع العالم الراحل (فؤاد سفر) كتاب (الحضر مدينة الشمس)، وكتاب (أريدو) باللغة الانكليزية .. كما قدم للطبع العديد من الكتب لكنها للأسف لم ترى النور، مثل (تطور المعابد و البيوت الخاصة بين الألفين السادس والثالث ق.م) و(عمارة مدينة الحضر) و(العمارة الاسلامية في القرون الثلاثة الأولى للهجرة).
_ توفي في 10_10_1997
وأذ أنهي هذه السطور بحق عالم الآثار الكبير (محمد علي مصطفى) واستذكاري البسيط هذا، فأني استذكر معه جميع علماء ومفكري العراق، لاسيما المنسيين منهم، أولئك الذين طمست سيرهم الناصعة فوضى هذا الزمان، ممن رحلوا عن عالمنا وتركوا أرثاً علمياً وثقافياً ثرّاً منح وطننا سمعته وبريقه الحضاري، هؤلاء الأفذاذ الذين أفنوا حياتهم لأجل بلدهم وشعبهم والعلم الذي أبدعوا فيه، ولم يتبقى منهم شيء سوى كتابات متناثرة هنا وهناك، وشواهد قبور ضمها ثرى الوطن.. وكما قال فصدق الشاعر الفيلسوف (عمر الخيام)...
يا ثرى كم فيك من جَوهر ٍ ...يَبين لو يُنبش هذا التراب
1703 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع