الدكتور رعـد البيدر
أن تحوّل بعض الظواهر إلى نظريات يبقيها حقائق أزلية لا تتغير معانيها ونتائجها برغم دوران عجلة التاريخ - ما لم تُستبدل بنظرية أكثر انطباقاً على ذات الظاهرة التي تم اخضاعها لدراسة سابقة ، ثم أكملتها دراسة لاحقة حققت نتائج أكثر اقناعاً من النتائج السابقة .... خلال القرن السادس قبل الميلاد أشار المفكر العسكري الصيني " سن تزو " في كتابه " فن الحرب " المؤلف من (6000) صفحة والمتكوِّن من (13) فصل - إلى أنه: (( لا توجد سابقة في التاريخ تشير إلى أن بلداً ما قد استفاد من حرب طويلة )).
بضوء رأي " سن تزو " وتطبيقاته على أرض الواقع فأن معنى الأرباح لا ينطبق على ما ترتب من نتائج القتال في الحرب العراقية – الإيرانية ، ويخطأ البعض عندما يُفسر النصر بالمعنى اللفظي للربح ؛ فيُقال: رَبِحَ المعركة - أي أنتصر فيها، وتحقيق النصر في ميدان المعركة لا يحقق معنى الربح ؛ لأن فيه ما هو غير قابل للاسترجاع ، بمعنى آخر- لن يتحقق كسب دون فقدان . أما مفهوم الخسائر فأنه أكثر انطباقا؛ لأن خسارة المعركة تعني الجمع بين ضياع النصر ( الهزيمة ) في القتال، وخسران موارد بشرية ومادية سُخِرَّت لنصر ٍلم يتحقق.
ترابطاً مع عنوان المقال فقد أشار "هنري كيسنجر" وزير الخارجية الأسبق في مذكراته عن تمنيات الولايات المتحدة الأمريكية في تلك الحرب بقوله: (( إن هذه هي أول حرب في التاريخ تمنينا أن لا يخرج أحد منها منتصراً وإنما يخرج الطرفان منها مهزومين )).
امتدت الحرب العراقية - الإيرانية أطول فترة عرفها تأريخ حروب دول العالم الثالث في الزمن المعاصر، وقد سببت خسائر بشرية ومادية خارج ميادين القتال؛ فجعلت مكونات ومجاميع خسائر الطرفين عالية ، إضافة إلى ما يُعتبر خسائر غير مبررة بسبب الإنفاق المُلزم لإدامة آلة الحرب. لم يَنشُر كلا الطرفين حقائق خسائره البشرية والمادية بصورة رسمية ، إضافة لما حصل من خسائر معنوية كبيرة خلال الحرب أو في نهايتها - أجتَّهد طرفا النزاع بإخفائها.
قدرت بعض الدراسات بأن مُجمَل الخسائر البشرية إلى (1,5) مليون قتيل ، (3) ملايين جريح - نسبة (40%) منها من الجانب العراقي . وتشير مصادر بحثية بأن العراق قد أنفق لشراء الأسلحة خلال فترة الحرب حصراً مبلغ (159) مليار دولار، بينما أنفقت إيران للفترة ذاتها (69) مليار دولار. وعلى أثر إخفاء الحقائق أمسى من الصعوبة تقدير قيمة الأضرار التي حدثت للمنشآت والمساكن والبنية الأساسية ( التحتية ) للبلدين لعدم قيام جهات أو لجان محايدة مختصة بهذه المهام . أشار المشير عبد الحليم أبو غزالة في كتابه الحرب العراقية -الإيرانية بأن الخسائر البشرية للطرفين ضمن الأرقام المبينة بالجدول التالي:
أما الفريق الأول الركن نزار عبد الكريم فيصل الخزرجي رئيس أركان الجيش العراقي في السنوات الأخيرة من حرب البلدين فقد أشار في كتابه مذكرات وشهادات عن الحرب العراقية – الإيرانية بأن مجمل الخسائر المادية للعراق (350 ) مليار دولار تشمل : حجم التدمير الذي أصاب البنية التحتية ، والمصانع والمنشآت ، رواتب عوائل الشهداء والمفقودين والأسرى . ومما زاد من الخسائر المادية خارج التوقع الاقتصادي؛ الانخفاض الحاد بسعر النفط الخام الذي وصل إلى (7) دولارات للبرميل الواحد ، في حين كان (37) دولاراً للبرميل الواحد قبل بدء الحرب ؛ ومنه يُستنتَج حجم الفائدة الاقتصادية التي تحققت لدول الاستهلاك النفطي من الحرب في مراحلها الأولية.
وبخصوص الخسائر البشرية وفقاً لكتاب مذكرات الخزرجي - التي اعتمدها بناءً على نتائج دراسات لجان مكلفة من قبل الأركان العامة ؛ فقد حدد أرقامها بما يلي : (150000) شهيد ، (700000) جريح ، (85000) أسير ومفقود – الأرقام الثلاثة تشمل مختلف الرتب من الجيش وقوى الأمن الداخلي والجيش الشعبي.
أشارت البيانات العسكرية العراقية في المراحل المُبكرة للحرب إلى مجاميع الخسائر اليومية، لكنها حُجبت مع استمرار الحرب. الإحصائية الرسمية العراقية الوحيدة التي نُشِرَّت خُصِصَّت لمعارك الفاو فقط من الاحتلال إلى التحرير (1986- 1988) وبموجبها بلَّغ عدد الشهداء (52899) وعدد الجرحى (208677) مقاتل .
ما لا تختلف أراء معظم المحللين بأن العراق قد خرج منتصراً من الناحية العسكرية، ويمتلك جيشا كبيراً تعداده (57) فرقة مقاتلة، وقاعدة صناعة حربية كبيرة، وقوة جوية وصاروخية شكلَّت ذراعاً طويلا ًللقوة العراقية بلَّغ مداها ما يزيد عن ألف كيلو متر ، وطيران جيش فعال وكفوء في حين كان صنفاً جديداً قد استقل عن القوة الجوية قبل قيام الحرب بأقل من ثلاثة أشهر... وتنامى خلال الحرب وتنوعت طائراته وقوته العمومية من الطيارين والكوادر الهندسية والفنية والإدارية ، وبشكل عام خرجت جميع صنوف الجيش العراقي بخبرة قتالية عالية . ومن ناحية أخرى أثرت الحرب سلبياً على واقع الدولة العراقية والمجتمع : فقد أنهكته فترة القتال الطويلة، وأحدثت فيه فجوات اجتماعية خطيرة ، وأورثته اقتصاد مُنهَّك، وديون ثقيلة.
لا تختلف تقييمات المتابعين بأن الخسارة المعنوية للجانب الإيراني كانت قاسية، ووصفها " الخميني " مرشد الثورة الإيرانية ، أنه تجَّرع كأس السم الزعاف حين قبل بحقيقة الخسارة الكبيرة على جميع الأصعدة لتطلعات الثورة الإيرانية ، واحتمالات انهيارها؛ إذ خرجت إيران وهي مهزومة عسكرياً ، وفي عزلة شبه كاملة عن محيطها الإقليمي والدولي- إلا أن غرور القوة العراقية ، وانهيار الاتحاد السوڤيتي؛ منحاها مصل الحياة مجدداً ، وأتاحا لها فرصة إعادة تنظيم ثقافتها وسياستها وعلاقاتها الداخلية والخارجية واقتصادها بأقصر فترة من الزمن؛ فظهرت من جديد كقوة تسعى لفرض أرادتها إقليمياً.
كان الفائض المالي النقدي في الميزانية العراقية للنصف الأول من عام 1980 وفق التقديرات (37) مليار دولار. ولم تكن الديون الخارجية للعراق تتجاوز (3) مليار دولار، ولا تشَّكل بمجموعها سوى (6%) من الناتج المحلى الإجمالي البالغ (53) مليار دولار- يشَّكل نشاط الصناعة النفطية حوالي (45%) منه، ولا يترتب من جرائها أي مشكلة اقتصادية. وفى نهاية الثمانينات كان العراق يدفع حوالي (7) مليار دولار سنويا لخدمة ديونه بنسبة (64%) من حصيلة صادراته الكلية. من المؤكد إنها نسبة مرتفعة جدا لا يتحملها أي اقتصاد حتى ولو لفترة قصيرة ؛ فتسبب بتراكم المتأخرات لتصل إلى (40) مليار دولار.
قدَّرَت دراسة أخرى الخسائر الإجمالية للحرب حوالي (500) مليار دولار- منها (280) مليار دولار خسائر إيران و(220) مليار دولار خسائر العراق، إضافة إلى (450) ألف قتيل وأضعافهم من الجرحى والمُعاقين، وخسائر في المنشآت النفطية والاقتصادية تقدر بـ (500) مليار دولار للبلدين- أي أن التكلفة الإجمالية للحرب تقدر بـ (1000) مليار دولار.
ارتفعت نسبة العراقيين الذين يعيشون دون مستوى خط الفقر من (19%) في عام 1979 إلى (28%) في نهاية الحرب العراقية – الإيرانية . أما إيران فقد صارت النسبة فيها (30%) مقسَّمة بين بطالة مباشرة، وبطالة مقنعة .
إن هاتان النسبتان تعنيان ابتعاد ما بين ( أكثر من رُبع وأقل من ثُلث ) القوى البشرية خارج دائرة المشاركة الإنتاجية - بمعنى أن أفراد هذه النسب ليس لهم دور في تنمية الثروة الوطنية. ومن ارتفاع النسبتين يُستنتَجُ حجم الخسارة الاقتصادية والاجتماعية، وسلبيات مظاهرها على ضرورات النواحي الحياتية في البلدين.
من بين الانعكاسات السلبية لحرب البلدين أنها عمَّقت الفجوة النفسية بين شعبي البلدين، ولا زالت تطرح ذكرياتها الدموية المؤلمة في كل مناسبة ؛ فأعاقت فتح صفحة جديدة من العلاقات الجيدة بين البلدين لغاية الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، وترتب على نتائجها ما سبق الاحتلال وما أعقبه من تغيرات في علاقات البلدين .. سنتطرق إليها في مقالات لاحقة بمشيئة الله .
بصرف النظر عن تقييم المنتصر والخاسر بنتيجة ما آلت إليه نهاية الحرب، أو عن عبارة " لا غالب ولا مغلوب" التي تُشير إليها بعض المصادر- فإن درجة القناعة والتفسير متباينة ، ولا يتسع مجال المقال مزيداً من التعَّمُق فيها ، لكن الانتصار بحد ذاته كان في وقف القتال كونه أوقف المهام القتالية للطائرات، ورمي الصواريخ والمدافع والبنادق في رمي مصوَّب أو طائش، وجنَّبَ شعبي البلدين مغامرات وأخطاء السياسة لسنوات الحرب العجاف التي كانت (أفضلها - قاسية ، وأحلاها - مَريرة، وأسعدها - حزينة) فخلَطَت الدمع والدم في كل يوم من أيامها، وغابت بسمة الفرح عن الوجوه - وإن أظهرها البعض؛ فقد أنكرتها قلوب حزينة.
انتقد المشير عبد الحليم أبو غزالة ما أشار إليه " توني كورد سمان" عن نتيجة الحرب إذ أوضَحَ في انتقاده : (( لقد صدمتني جملة وردت في كتاب " لتوني كورد سمان"، إن الحرب العراقية - الإيرانية أثبتت انتصار النظام العلماني العراقي على النظام الإسلامي المتطرف، وهو يخطئ كثيراً في ذلك ؛ لأن الحرب لم تكن بين نظام علماني ونظام إسلامي وإنما كانت بين فرس وعرب يرجع تاريخها إلى مئات السنين. وكنت أتمنى أن يكـون الإسلام الذي يسـود بين الدولتيـن هو مانـع لمثـل هــذه الحــــرب . أن التعبيــر " الكوردسماني" فيه ظلم كبير لنا كمسلمين ولنا كعرب)) .
أخيراً - فأن المصادر التي أشارت إلى الأضرار الناجمة عن حرب البلدين قد تعددت لكن نتائجها الإحصائية غير متطابقة . المُرَّجح وفق رؤيتنا بأن الطرفين قد بالغا بطرح بيانات ومعلومات الخسائر، أو تم إخفاء بعضها عن تقَّصد. ومما تجدر الإشارة إليه أن الأضرار لم تقتصر على طرفي النزاع فحسب وإنما شملَّت بلدان أخرى - أضرار بعضها مادية وأضرار أخرى غير مادية إلا أن حاصل مجملها قد غيَّر طبيعة العلاقات الدولية مع البلدين المتحاربين.
1175 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع