إبراهيم الزبيدي
إن داعش اليوم، مهما أنكر البعض، أو شكك، أصبحت بسمعتها وأفعالها وشعاراتها مثلا أعلى لكثيرين متشددين متطرفين في تفسير الدين وتطبيق أحكامه، حتى وهم لا يقرأون القرآن، وإن قرأوه فلا يفهمون ما يقرأون، إما لجهلهم في لغة القرآن، أو لأنهم من فئة المسلم الذي لا يصلي ولا يصوم ولا يؤدي زكاة، ومع ذلك ينصب نفسه الحاكم ومنفذ الحكم معا، ويمنح نفسه الحق في تكفير هذا وتقديس ذاك، مدفوعا بدروس رجال الدين، وخطبهم التي يمتليء الكثير منها بالخرافة والحكايات الملفقة المضلِلة الموروثة من قرون الظلام.
وفي المجتمعات الإسلامية، اليوم، وخاصة تلك التي ما تزال أسيرة التعصب الديني، آلافٌ من المستعدين لارتكاب جرائم تفوق، في وحشيتها وبشاعتها، جرائم الداعشيين المجندين في داعش ذاتها الذين يقطعون الرؤوس بالسكاكين، وعلى شاشات التلفزيون.
مناسبة هذا الكلام ما نشر عن رياض عبد الله قاتل الكاتب الصحفي الأردني ناهض حتر الذي قيل عنه إنه سلفي (مستقل)،أي أنه غير منتمٍ لداعش أو لغيرها،ولكنه من المؤمنين بأن (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده) فقط، ثم يُهمل الباقي: (فمن لم يستطع فبلسانه، ومن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان).
ففي حادثة اغتيال الكاتب ناهض حتر(المحسوب)على العلمانية وعلى اليسار والديمقراطية ، مسألتان ينبغي تناولهما بالتدقيق والتفصيل.
الأولى أن القاتل قد لا يكون، شخصيا، شاهد الرسم الكاريكاتيري الذي نشره ناهض في موقعه، ولم يحاول التأني في الحكم عليه قبل تفكيك أجزائه، واحتمال أن يكون، فعلا، (سخرية من الإرهابيين وتصورهم للرب والجنة، ولا يمس الذات الإلهية من قريب أو بعيد)، كما أعلن ناهض نفسه بعد النشر بقليل.
أوقد يكون مأمورا بالقتل، مدفوعا من جهاز مخابرات، أو زعيم حزب، أو رئيس قبيلة، أو إمام.
أو قد يكون متطوعا للقتل، بجهلٍ وتعصبٍ أعمى، من أجل أن يفوز بالشهادة، لو قُتل أو أعدم، فيدخلَ الجنة، وينعمَ بِحُورها العين وغلمانها وخمرها وعسلها، مع الخالدين.
والحقيقة أن داعش سوف تهزم قريبا، وتتحرر المدن والقرى التي تحتلها اليوم، وتختفي أعلامُها وسكاكين (مجاهديها)، وقد يُقتل (خليفتها) البغدادي وأركان خلافته، أو يستسلمون فيحاكمون ويعدمون. فهي فقاعة وجدت في غير مكانها وزمانها، ولابد لها من أن تزول كما زال مثلها في التاريخين الإسلامي والإنساني، وإن طال بها الزمن.
ولكن المصيبة لن تنتهي بانتهائها. فأحكامُها وعقائدُها كانت وستبقى ذاتَها الأحكامَ والعقائدَ التي تؤمن بها وتُخلص في تقديسها الملايينُ من المتدينين المتطرفين التكفيريين والسلفيين ، سنة وشيعة، لا في بعض الدول الإسلامية فقط، بل حتى في بلاد المغضوب عليهم والضالين والمشركين.
وهذا الذي عاد من الحج ليحمل كفنه بيد، ومسدسَه باليد الأخرى، فيقتل ناهض حتر وهو على سُلم المحكمة، قبل أن يقول القضاء كلمته فيما نشره على موقعه، مجردُ واحدٍ من ملايين لن يتورعوا عن ذبح من يرون أنه ارتد أو أشرك أو ازدرى الدين، حتى لو لم يتحققوا، ليعدلوا.
أما المسألة الثانية فهي ناهض حتر ذاته. ومن يعرفه شخصيا، ومن تابع كتاباته وتصريحاته العلنية الإذاعية والتلفزيونية والصحفية يعلم أنه متطرفٌ أيضا ولا يقل تطرفا عن قاتله السلفي، بل أشد.
أما فيما يتعلق بالرسم الذي تجرأ فنشره على موقعه، فإن كان يقصد به تسخيف الفكر الداعشي، كما زعم، فهو نسي أو تناسى أن فكر داعش هو ذاته فكر الشخص الذي أقدم على قتله في عمان، وبالتالي فنشرُه لما نَشر حماقةٌ بكل المقاييس.
وإن كان قصده السخرية فعلا من الذات الإلهية ومن الفكر الديني، بالإطلاق، فهو يكون قد ارتكب جريمة بحق أول مباديء العلمانية وأهم أحكامها. وإن كان يعتقد بحريته في تسخيف عقائد الآخرين، دون أن يحسب حسابا لعواقب هذه السخرية فهي منه سخافة وغباء. فالعلمانية الحقيقية تحكم بفصل الدين عن الدولة، ولكنها تحترم، وبشدة، جميع العقائد الدينية باعتبارها حرية شخصية خالصة، وتصون أصحابها، مع تمسكها الحازم والنهائي بحياد الدولة، وبحمايتها من تدخل رجل الدين في دستورها وقوانينها، ورفص وصايته عليها، بأي شكل، وبأية صيغة، وأي عذر.
والغريب هنا أن البعض اعتبر اغتيالَ ناهض حتر جريمة بحق العلمانية وحرية الرأي والديمقراطية.
فأية علمانية تلك التي تسمح بالسخرية من عقيدة شرائح واسعة من البشر؟ وأية علمانية تلك التي تسمح بتأييد حزب الله اللبناني الديني الطائفي السلفي المتشدد، وشرعنة دوره الإجرامي في سوريا؟ وأية علمانية تلك التي تبرر الدفاع، علنا، عن جميع ما يفعله ديكتاتور وحش مثل بشار الأسد؟ وأية علمانية تلك التي تؤيد نظاما طائفيا دينيا سلفيا متطرفا كنظام الولي الفقيه في إيران، وهو لا يختلف بشيء عن داعش التي قُتل ناهض حتر بسبب سخريته منها، ومن عقيدتها؟ عجايب!!
1693 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع