الدكتور/ سعد العبيدي
الجيش العراقي في ذكرى التأسيس: ما له وما عليه
عام
1. لقد قيل الكثير بحق الجيش العراقي منذ تأسيسه عام 1921، وحتى يومنا هذا، قول يحوي على السلب وكذلك على الايجاب، وهو صحيح، اذ لا يمكن أن تكون مسيرته الطويلة هذه في مجتمع بدائي ناشئ مثل العراق تمتاز بجانب واحد،
واذا ما كان الايجاب تحصيل حاصل في مسيرة الجيش او الدولة وحتى الافراد، فلابد من التفتيش عن السلب بقصد أنقاص كمه وزيادة هامش الايجاب، وهذا يجر الباحث أن يتناول البداية التي قيل بصددها أن صيغة التشكيل "البريطانية" كان لها أثر في ايجاد بذور انحراف عن تطلعات المجتمع العراقي بوجود جيش مهني غير مسيس، واذا ما اضيف لهذا القول، قول آخر، مفاده ان طبيعة تشكيله، وسياقات تطوره، ومعالم نموه وتضخمه، واتجاهات استخدامه لاغراض الامن الداخلي لفترات طويلة، اوجدت عوامل هدمه وانحرافه ذاتيا. 2. اذا ما آمنا بهذه الاقاويل، علينا أن نؤمن أن ماحصل للجيش العراقي طوال تسع عقود متصلة، لم يكن قد حصل بشكل أعتباطي، ولا يمكن ان يكون بالصدفة العابرة مثل مواضيع أخرى في الحياة الدارجة. ونؤمن أيضا بوجود اسباب وعوامل اجتماعية وسياسية، لم يدركها القريبين أحيانا، ويصعب ادراكها في معظم الاحيان، لانها موجودة في الغالب داخل عقول المعنيين في أعلى السلطة التي لا تقبل تركيبتها النفسية الكشف والنقاش. لكنها عوامل يمكن تقصيها واستكشافها من خلال النتائج أو بوسائل البحث العلمي، ومن خلالهما سوية يمكن الاشارة الى أن الجيش العراقي قد تعرض لعمليات هدم وانحراف وتصدع حصلت غالبيتها في نهاية عمره "العقد الثامن" لاسباب غالبيتها سياسية حتمت بلوغ غاية الهدم المطلوبة.
خصائص فريدة في السجل المهني للجيش العراقي
3. هناك معالم هدم طالت هذا الجيش العريق، جاءت في الاساس من طبيعة الاستخدام ومحاولات الاشتراك بالانقلابات، ومساعي التسييس والتبعييث، والزج في حروب غير متكافئة، الا انها معالم وعلى الرغم من تحقيقها نتائج الهدم المطلوبة لمسيرة توجت بقرار الحل الظالم من قبل الاحتلال فأن خصائص ايجابية كانت قد وسمته لا يمكن نكرانها مثل:
آ. الضبط العسكري.
إن العسكرية العثمانية التي تميزت بالضبط الصارم، وممارسة العقوبة كوسيلة لترسيخ هذا الضبط، تركت بصماتها على مقادير حصوله في عموم المؤسسة العسكرية العراقية، من خلال جيل الضباط الذين تطوعوا في وحداتها بداية تشكيلها، وكذلك كانت العسكرية البريطانية التي عرفت بضبطها الجيد قد تركت هي الأخــرى بصماتهـا الواضحة، من خلال الخبراء والمستشارين البريطانيين الذين نُسبوا للمعاونة آنذاك، ومن البعثات التي أرسلت للدراسة في الكليات والمؤسسات البريطانية، وكذلك كفاءة، وجدية أولئك الضباط العراقيين الاوائل الذين أخذوا على عاتقهم مهام بناء القوات المسلحة (1)، والتي تضافرت جميعها لتكوين مستويات ضبط جيدة في عموم الوحدات والمراكز والمؤسسات استمرت مؤشراتها "معقولة " مع تذبذب بين الحين والآخر تبعا لظروف العراق السياسية "حتى عام 1968 يوم تعاملت الحكومة مع المؤسسة بطريقة غيرت معنى الضبط من العسكري التقليدي الى آخر ممزوج بفلسفة سياسية حزبية "نفذ ثم ناقش"، ومن بعد هذا عام 1980 الذي ادخلت في بداية شهره الثامن القوات المسلحة بجميع فروعها في حرب مع إيران لثمان سنوات، عدّتْ نقطة التحول السلبية في مجال الضبط العسكري، الذي اخذ بالتصدع السريع كنتيجة حتمية لطول فترتها، والتدخل السياسي في تفاصيل ادارتها (2).
ان الجيش بشكل خاص، والقوات المسلحة على وجه العموم، مؤسسة منضبطة يجري تدريب افرادها على تنفيذ الأوامر الصادرة من القادة والآمرين، تسلسلا من الاعلى الى الادنى... مسألة حتمت وجود سياقات عمل، وأساليب تعامل، وتدرج في الرتب، وشكل تنظيم ساعدت جميعها على تحقيق غاية تنفيذ الأوامر "الضبط"، عماد المؤسسة العسكرية، وهذه ورغم أهميتها، الا ان حدوثها بشكل مطلق اي تنفيذ الاوامر اي كانت طبيعتها على وفق مفهوم الضبط التقليدي، قد تغيرت في العام المذكور، بعد ان قلقت السلطة من احتمالات انحراف القوات المسلحة عن مهامها الاساسية في حماية وجودها، لمصلحة بعض الجماعات أو الأفراد، واتجهت بسببه الى صياغة خاصة للضبط يبقى فيها المنتسب منفذا لبعض الاوامر العسكرية، وممتنعا عن تنفيذ أخرى، أي تجزأة الضبط لمستويين.
أولا. الاول، يتعلق بالأوامر العسكرية الصرفة.
تلك الأوامر التي تقتضي ضرورات عمل القيادة تنفيذها في كافة الظروف والمواقف، مثل التي تتصل باعمال القتال في الحرب، والشؤون الإدارية، والتنقـــل .... الخ، وما يتخللهما من أوامر وتوجيهات فرعية. وهي واجبة التنفيذ حد تحديد عقوبة الإعدام في حال الامتناع او التلكؤ عن تنفيذها، في ظروف الحرب والتوتر التي سادت طوال الزمن السابق.
ثانيا. الثاني، ذو صلة بالأوامر العسكرية ذات الصفة السياسية.
وهي الأوامر التي يمكن أن تصدر عن المستوى القيادي الأعلى، مطالبة الادنى بالقيام بفعل يهدد أمن الحزب والثورة، مثل التمرد على الحكومة ومحاولة اغتيال مسؤول من الحكومة أو التحرك لتغيير الحكومة .... الخ. وهذه يمنع تنفيذها لمستوى تحديد عقوبة الإعدام ليس فقط للذين ينفذون أوامر الجهة التي تصدرها، بل وكذلك لمن لا يُخَبِر عن آمره الذي أصدر مثل تلك الأوامر، وإن لم يجر تنفيذها. وبصددها لم تكتف القيادة باصدار تعليمات توضح ابعاد هذه المعادلة، بل وتوجهت الى احتواء المؤسسة العسكرية والامنية بطريقة السيطرة الحزبية على قادتها واختيار غالبيتهم بمواصفات تتسم بالتابعية والوصولية، والخوف من السلطة، لأن خصائص من هذا النوع تؤدي الى:
أولا. عدم تحمل المسئولية، وبدلا من تحملها يرجع الجميع الى الاعلى في صغائر الأمور قبل كبائرها، الامر الذي يؤخر ويربك سلسلة القرار، ويعزز الدكتاتورية في نفوس القادة الكبار.
ثانيا. تثير في داخل المنتسبين الشك بما يصدر إليهم من أوامر من الجهات الأعلى، وتجعلهم يحسبون ألف حساب قبل تنفيذ ما يصدر اليهم من اوامر، وان عرفوا بمستويات انضباطهم العالي.
ثالثا. حصر كثير من أنواع القرارات، والصلاحيات بالقيادة العامة للقوات المسلحة، إذ وصلت الحال في بعض مراحل الزمن السابق، أن يؤخذ رأيها بتغيير موقع دفاعي لسرية مشاة على جبهة تمتد 1200 كيلو متر وتنسيب آمر وحدة ومدير شرطة قضاء. ويؤخذ رأيها ايضا بتنسيب ضابط من وحدة إلى اخرى في بغداد او شرطي الى جهاز الامن الخاص، وسفر الضباط وتنقلهم واجازات القادة والآمرين.
إن التغير على وضع المؤسسة في مجالات الضبط وسياقات التعامل، والقيادة والسيطرة، التي تتعلق به، قد زادت شدته بشكل ملحوظ بعد العام 1979 بعد ان وُضِعتْ أداة طيعة في يد القيادة الفردية المغامرة غير العقلانية، تستخدمها بالطريقة والاتجاه الذي تريد، وان كان طريقا لا يمكن سلوكه عمليا، وبالقدر الذي عزز من توجهات الهدم الموجودة في الاصل وإدام استمرارها.
ب. الوطنية.
إن مشاعر المنتسبين من الضباط للأجيال الأولى في عموم الجيش والمؤسسة العسكرية، قد تأثرت بالمد الوطني الاتي من تاسيس الدولة العراقية آنذاك، حتى حاول البعض، وخارج السياقات الدارجة التأكيد على أهداف عامة للجيش تتمثل في الدفاع عن حدود الدولة وحماية أمنها الخارجي، رغم المخالفة في استخداماته المتكررة داخليا، وكانت تمارين تعد وتنفذ، ومناقشات تدور في هذا المجال، وأوراق بحث في كلية الأركان تنجز بحدود معقولة تجتمع في نتائجها، وتوصياتها لتغطية تلك الأهداف، حتى أصبحت مفرداتها تتكرر في عقول المنتسبين وفي سلوكهم لمستوى أشعرتهم بالاعتزاز الكبير بها، وبالقوات المسلحة التي تسعى إلى تحقيقها. وهذه عند النظر إليها من زوايا النفس، نجد أن فيها أسس لمشاعر وطنية بين المنتسبين بحدود مقبولة(3)، وان كانت مشاعر استخدمت كتبريرات لاقحامها في القتال الداخلي عشرات المرات، ومن قبل كل الحكومات بالتعاقب منذ عشرينات القرن الماضي، والى عام 2003 وجميعها لجأت اليها وسيلة ضبط وتقويم، وردع قادرة على الحيلولة دون حدوث التهديد، حتى ان جميعها وكلما واجهت مأزقا أمنيا يهدد مصيرها، اعطت لنفسها، واعطاها الظرف غير المستقر الحق في الاستخدام. حقٌ تربطه دائما بدوافع وطنية، وبالتالي لا يصبح الاستخدام الفاعل، لاغراض الامن الداخلي، من وجهة نظرها مثلبة او مخالفة صارخة للمشاعر الوطنية.
هكذا كان الحال، واستمر كذلك الى ما بعد 2003، اذ وعندما وجدت أول حكومة عراقية بعد ذلك العام أنها بمواجهة تهديد جدي، لجأت الى أشراكها مع قطعات امريكية وبريطانية في معركة الفلوجة الثانية تشرين الاول 2004 وان كانت بعض وحداتها حديثة التشكيل، على اساس محاربة متمردين ينتمون الى تنظيم القاعدة أو مدعومين من قبلها. كما حتمت الضرورة معاودة استخدامها في صولة الفرسان بتاريخ 25 آذار 2008 بمحافظة البصرة، لمقاتلة متمردين ومتجاوزين على الدولة، ومن ثم المساهمة الى جانب وحدات من وزارة الداخلية في الخطط الامنية ببغداد وغالبية المحافظات العراقية العربية التي تعرضت الى أعمال ارهاب منظم غير مسبوقة.
من هذا يكون النظر الى مسالة استخدامها طرفا في قتال داخلي طرفه المقابل مواطن عراقي مسالة حساسة. وعموما فان تقدير هذا النوع من القتال وطنيا من عدمه بحاجة الى الكثير من التدقيق والمتابعة، والحكم عليه صعب، لان بعض انواع القتال الداخلي يكون احد اطرافه المقابلة للقوات المسلحة في ساحة المعركة الداخلية مشبوها بعلاقاته الخارجية، مما يبرر للدولة في حالته الاستخدام، كما يصدف ان تتعرض الدولة ليس العراق فقط، لمواقف صعبة تكون النتائج المحتملة في حال عدم استخدامها، والجيش منها على وجه الخصوص، كارثة على الدولة والمجتمع، كما هو الحال بين الاعوام 2005 – 2008 عندما دخلت قوى ارهابية خارجية الى جانب قوى مقاومة داخلية، لو لم يشارك الجيش في قتالها لتغير حال العراق بالشكل الذي تريده تلك القوى تابعا لحركة سلفية أممية طائفية او مقسما لعدة دويلات.
من هذا يمكن وضع الوطنية في هذا النوع من القتال، علامة تتأرجح بين طرفي خط مستقيم في اقصى يمينه وطنية حقة، وفي اقصى اليسار تجاوز على الوطنية. تحدد الظروف المحيطة بالاستخدام وطريقته، واسلوب التعامل مع الواقع، مكان هذه العلامة على ذلك الخط.
من وضع الوطنية هذا، لابد من الاخذ بالاعتبار حقيقة، تتمثل في ان كثر استخدام القوات المسلحة والجيش منها على وجه الخصوص في اعمال داخلية اي كان نوعها، يؤدي الى اضعاف مشاعرها، لكلا الجانبين المواطن والعسكري، ويتسبب في نشأة وانتشار انواع من الانحرافات المخلة بالمشاعر الوطنية التي تعجل بعملية الهدم. وعلى وفقها حقيقة، لايمكن تجاوزها، يصح القول ان مستويات المشاعر الوطنية للجيش وعموم القوات المسلحة لما قبل 14 تموز 1958 كانت تفوق ما بعدها، وانها مستويات بدأت بالتناقص من ذلك التاريخ الفاصل تدريجيا من كثر استخدامها في اعمال القتال الداخلي، الى أن وصلت مستوياتها الادنى قريبا من عام 2003 وانتقلت لما بعده لاستمرارية الاستخدام وظروف التأثير السلبي الجانبية.
انها مشاعر اذا ما وضعت الى جانبها المشاعر القومية على نفس السياق، يمكن الوصول الى ذات الاستنتاج الخاص بان الاستخدام غير المبرر للقوات المسلحة خارج حدود الوطن وسوءه اثر على المشاعر القومية، اذ ان العراقيين على سبيل المثال الذين تحمسوا معاناة امتهم العربية، وتظاهروا دعما للجزائر في حربها مع الفرنسيين وقدموا بعض المساعدات، ومثلها فعلوا مع مصر وسوريا في حروبهم وقدموا تضحيات، تؤشر في عموم تلك الازمنة:
أولا. وجود مشاعر قومية عربية ملموسة بين صفوف الكثير منهم"مع استثناء ابناء القوميات الكردية والتركمانية وغيرها". أمتدادات انعكست أبعادها على القوات المسلحة ومشاعر منتسبيها القومية العربية، خاصة الضباط، وقناعاتهم في الدفاع عن الامة وتحقيق اهدافها.
ثانيا. ايمان العسكر وعلى وفق الكم الموجود من المشاعر القومية إن دورهم في الدفاع عن العراق يُكمل دور الجيوش العربية الباقية في الدفاع عن أراضيها، في إطار الأمن القومي العربي.
ثالثا. انها مشاعر أعطت البعد القومي في العقل العراقي العام، وكذلك العقل العسكري العراقي مساحة معينة، خاصة ما بعد سبعينات القرن الماضي التي سيطر على القوات المسلحة خلالها، المد القومي المؤدلج بعثيا، بمساحة قومية كانت تفوق المساحة المفترضة او المخصصة للمشاعر الوطنية العراقية.
ان المشاعر القومية مثلها مثل المشاعر الوطنية، بدأت تنحسر مع تقادم الزمن، وسوء الاستخدام الحاصل للقوات المسلحة، والتناقض بالشعارات بين التمنيات النظرية، والحقائق العملية لاسباب عدة من أهمها:
أولا. معظلة الكويت والحرب التي دارت معها، وردود الفعل المضادة لمحاولات الحكومة العراقية آنذاك ربط موضوعها بالوحدة العربية، ربطا لم يكن منطقيا، كوّن في العقل العراقي العام والعسكري على وجه الخصوص، ايحاءات مضادة للوحدة العربية كنتاج للمشاعر القومية.
ثانيا. تحالف بعض العرب مع الغرب والأمريكان لضرب العراق في أزمته مع الكويت، وأعتقاد غالبية العراقيين أن العرب المنحازين في تحالفهم، قد سلكوا هكذا قبل استنفاذ السبل الأخرى لإيجاد حلول مناسبة لها. ومن ثم تيقنهم أن العرب لم يستخدموا إمكاناتهم المتاحة للضغط على الحكومة العراقية آنذاك، وإجبارها على الانسحاب من الكويت دون اللجوء إلى التحالف مع الأجنبي لتدمير البلاد وتطوير الأزمة.
ثالثا. وجود مؤشرات عن تعامل سلبي لمنتسبي الجيوش العربية المتحالفة مع الأسرى العراقيين أثناء القتال البري، ولمستوى دفع العسكري العراقي الى التوجه في موقف الاسر، وظروف القتال الصعبة الى الجيوش الأجانبية دون العربية.
انها اسباب وأخرى غيرها تتعلق بالسياسة الخطأ للدولة عموما كونت مشاعر بالضد من المشاعر القومية دون أن تسهم بتكوين مشاعر وطنية عراقية، جعلت العراقيين وبينهم العسكريين في حالة تيه نفسي.
ج. الشجاعة.
يُشَكَل سلوك الضباط ومنذ الأيام الأولى لدخولهم طلابا إلى الكليات العسكرية باتجاه الاعتداد بالنفس والثقة بها، وتحمل المسؤولية، والاقدام وتحدي المواقف الصعبة، مواصفات جامعة لخاصية الشجاعة، ويتعَلمونَ أساليب التعامل ومعنى الكرامة، حتى يصبحوا قدوة في وحداتهم، ويصمدوا في المواجهة بالقتال قبل غيرهم "شجاعة" ويتجنبوا الهروب أو التخلي عن واجبهم وجنودهم في الظروف الصعبة "تخاذل".
ان الشجاعة كسلوك تؤشر معطيات التاريخ وجودها بشكل مقبول بين المنتسبين الى نهاية سبعينات القرن الماضي، الفترة التي بدأ فيها التعامل مع العسكر بطرق غير مهنية اذ توجه القائد الاعلى إلى سب وشتم أعضاء في القيادة العامة وأحيانا معاقبتهم بالضرب أمام زملائهم لمجرد قيامهم بأعمال يفسرها من جانبه خطأ أو تقصير، وبتكرار هذا الأسلوب، ولغرض التخفيف من وطأة الاعتداء الحاصل على الذات الشخصية بدأ بعض أعضاء القيادة العامة وعلى وفق آلية التقمص النفسية، يمارسون نفس السلوك أو قريبا منه مع القيادات الأدنى منهم، وهكذا انتقل إلى قادة الفيالق والفرق والآمرين ومدراء الشرطة والامن، فأصبح شتم الضابط وإهانته علنا ومن بعده المراتب سلوكا شائعا، عندها شعر العسكر بالمهانة والذل. وبدأ الميل لتجنب المواجهة، وإن كان الثمن ضياع الوحدة والدائرة والمؤسسة أو حتى الوطن. خاصية تخاذل جاءت على النقيض من الشجاعة التي كانت موجودة او مقرونة بالأصول العشائرية، وبتاريخ الخدمة العسكرية الاولى في القوات المسلحة، التي تميزت في بعض جوانبها لعدة عقود سابقة بخصائص مثل إقدام جيد ودافعية عالية. وقدرة على التحمل. واستعداد للتضحية... خصائصٌ او مفردات شجاعة، على مستوى الافراد وكذلك الوحدات، فقدت من درجاتها كثيرا في الحروب الاخيرة "الحربين الخليجيتين: الثانية حرب الكويت، والثالثة حرب اسقاط النظام" اللتان بينتا على المستوى العام:
أولا. أداء ضعيف، بشكل ملموس.
ثانيا. تلكؤ في التنفيذ وبطؤ في الاستجابة للاوامر الصادرة، وضعف الدافعية بشكل واضح المعالم.
ثالثا. وهن نفسي مؤشر على مستوى الفرد والجماعة.
لقد حدث كل هذا بسبب وجود قدر من التخاذل، بالاضافة الى التفوق المطلق للخصم وسوء الادارة، وعدم تهيئة المستلزمات اللازمة للقتال.
د. المهنية.
لم يكن مسموحا لضباط الجيش وباقي أفرع القوات المسلحة، ولا لضباط صفها وجنودها منذ التأسيس والى عام 1958 ومن بعده الى عام 1968 العمل بغير المهنة العسكرية، التي يعتز بها المنتسب، ويحسب موردها كافيا لعيشه بالمستوى الذي هو فيه ضابطا او ضابط صف او جندي مطوع. وكانت الدولة بقوانينها وأعرافها تدعم عيش المنتسب ليكون بالمستوى الذي يليق به، وهكذا حافظت على مهنيته العسكرية، لفترة من الزمن، لم نسمع فيها ان ضابط يعمل في التجارة وهو في اثناء الخدمة. ومن النادر ان نسمع بضابط صف يعمل في البناء او في اعمال يدوية أثناء اجازته الدورية، واذا ما عمل احدهم في الحقل، فعمله يأتي لمساعدة عائلته، ويعتز بأنه قدم عونا. لكن هذا قد تغير قليلا بعد 1968، وكثيرا بعد 1980 في اثناء الحرب التي أضعفت الضوابط القيمية، وفتحت مجالات العوز والحاجة المادية، والاستغلال الفاسد للجهد البشري العسكري في الاعمال الخاصة(4)، فتوجه البعض من العسكريين ليكونوا مساهمين في اعمال تجارية، وآخرين اقتحموا الصناعة واستغلوا بعض من جنودهم لاغراض تتعلق بمصالحهم الشخصية، والبعض توجه لبيع سيارته الآتية مكرمة ليضعها استثمارا في مشروع او في عمل أطرافه جنود من وحدته أو زملاء له ومعارف من خارجها، واستمر الامر هكذا تصدعا في جدار المهنية العسكرية ازداد سعة مع ازدياد سني الحرب، فكانت في نهايتها:
مشاريع صناعية ضخمة لضباط قادة.
أراض وحقول زراعية لضباط بمستويات مختلفة.
سيارات أجرة يسوقها ضباط، وجنود بملابسهم العسكرية، يعملون صناعا او يستجدون في مواقف السيارات.
ضباط يديرون مشاريع تجارية او صناعية لجنودهم السابقين.
حتى أصبح الامر طبيعيا، لا تقوى المؤسسة بضوابطها الموروثة الوقوف بالضد منه. قبلته تماما عندما اصبح اعضائها في المستويات العليا يملكون، ويسعون لتوسيع ملكهم، ويدافعون عنه بصلاحياتهم المعهودة.
انتقال الخروق من الزمن السابق الى الزمن الجديد
4. من العرض البسيط لخصائص ايجابية كانت موجودة في العسكرية العراقية وأختفت أو قلت فاعليتها يتبن أن ان خرقا قد حصل لبنية الجيش المهنية والقيمية، خرقٌ أو مجموعة خروق، وان تكوّنت بشكل واضح ومؤثر اثناء الحروب وبسبب ظروفها، الا انها استمرت كسلوك هدم شائع للبنية العسكرية لا يمكن التخلص منها. انتقلت غالبيتها من الزمن السابق الى الزمن الجديد. فالبعض الذي حصل من العسكر على رواتب جيدة، وظروف عمل مناسبة بعد عام 2003 استمر بالتسابق، وبسرع أكبر نحو العمل بمهن اضافية. وتسخير المنتسبين لاغراض خاصة. واستغلال المنصب للامور الذاتية. وبالنتيجة قل ميل العسكر لاحتراف مهنتهم العسكرية، وقلت درجات الاعتزاز بها واجبا وطنيا يفتخر به في كل الظروف والمواقف.
5. لقد اصبحت القوات المسلحة بسبب هذا التهافت المصلحي طرفا من أطراف الأزمة الوطنية، لان اداؤها بالميدان قد اختلف وتدنى، بمستوى اصبح غير قادر لوحده على حسم الموقف، وان بعض منتسبيها دخلوا اطرافا بالمساومات الدائرة لخرق امنها وعاملا ولو غير مباشرا من عوامل استمرار الخروق الحاصلة، فتأشر:
آ. أن الضابط الذي كان يفتخر بين أهله وأفراد جيله قبل 1968 أنه عسكري عراقي، وضابط الصف الذي كان يحترم حدود عسكريته ويعتز بها، قد تغيرت نظرتهم هذه، وتغير سلوك تآزرهم معا كعسكريين عراقيين.
ب. ان العسكريين الجدد قد فقدوا التفافهم المعهود حول الضابط او ضابط الصف الذي يتعرض صدفة إلى موقف اعتداء في الشارع أو في احد وسائط النقل من قبل مدنيين، كما كان يفعل أقرانهم من الجيل الذي عاش خمسينات وستينات القرن الماضي، وتنازلوا عن مبادراتهم للوقوف التقليدي مع العسكري في موقف صعب، وتناسوا مشاهد التدافع، والانطقة النسيجية في الايادي داخل عربات القطار، ومحطات ركوب السيارات، عندما تنهال ضربا على من يجرؤ بالتطاول على عسكري فيها أي كان. ففقدوا بالمحصلة روح التعاون والاعتزاز بالعسكرية العراقية، ومهنيتها المتميزة.
هكذا تدنت مستويات المهنية الى الحضيض، وهكذا تكونت امراض تهديم في بنية الجيش العراقي العظيم، رافقته عدة عقود، تسببت في خسارته المعركة قبل دخولها، وخسارة وضعه التنظيمي وهيكليته البنيوية، انتقل الكثير منها الى جسم الجيش الجديد بعد اعادة تشكيله من جديد عام 2003.
الخاتمة
6.لقد أمتاز الجيش العراقي في مسيرته الطويلة بوجود بعض الخصائص الايجابية، وأمتاز بنفس الوقت بوجود أخرى سلبية مثلت خروقا وهدما في بنيته المهنية، وهذه التي مهدت لانتهاءه لا يتحملها العسكريون وحدهم وان كانوا طرفها الرئيسي، بل ويشاركهم في حصولها بصفة رئيسية السياسيون الذين سعوا لا ستخدام الجيش وعسكره أدوات لمصالح شخصية أو حزبية، ويشاركهم ايضا المجتمع العراقي القبلي الذي وسم سلوك الابناء مدنيين وعسكريين بخاصية المحسوبية القبلية والحزبية، التي دفعت البعض من الضباط المنحدرين الى القبيلة والمنتمين الى الحزب، أن يمهدوا كثيرا لأبناء عمومتهم وأفراد عشائرهم، وابناء المناطق التي ينتمون اليها والسائرين معهم في التنظيم الحزبي، فيما يتعلق بالقبول واستلام المناصب القيادية في أفرع القوات المسلحة.
7. انها خصائص واخرى غيرها اسهمت في هدم هذه المؤسسة العريقة قبل توجيه الطلقة الأخيرة الى جسدها الذي ترنح لعشرين عاما من كثر الضربات... طلقة قوامها الأمر بحلها جاءت حاسمة من قوات الاحتلال، فتسببت في مشاكل للعراق يصعب التخلص من آثارها السلبية لعشرات مقبلة من السنيين.
المصادر
1. جعفر عبد الرزاق، الجيش العراقي، نظرة في التأسيس عام 1921 ، دراسات عراقية ، العددان 12،13 آذار 2000 .
2. سعد العبيدي(2010) المعنويات في الميدان، دار الرشيد للطباعة، بغداد.
3. مديرية البحوث والخدمات النفسية (1988) العمل النفسي الميداني، بغداد.
4. الضغوط النفسية في الحرب، سلسلة بحوث عسكرية، الرقم 63، مديرية التطوير القتالي، الطبعة الاولى، 1986.
بغداد
6/1/2013
781 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع