حامد خيري الحيدر
يتفق الجميع أن آثار أية أمة هي بمثابة الارث الحضاري والمعنوي لها، وهي دليل رُقيها وصورة مساهمتها في المسيرة الانسانية... ولاشك أن فقدان تلك الشواهد بسبب التخريب أو السرقة تعتبر خسارة لا يمكن تعويضها ليس فقط لبلدانها وشعوبها انما للعالم أجمع، باعتبارها تراثاً انسانياً عالمياً...
وما يؤسف له أن ظاهرة سرقة الآثار والمتاجرة بها أخذت تنتشر وتتوسع في الفترة الأخيرة أكثر من ذي قبل، كما أصبح لها مروجيها ومتعاطيها، وأصبح لها مافيات عالمية خاصة تديرها ثبت ارتباطها بسياسات دولية واقليمية. والملاحظ أن هذه الظاهرة كما هي حال تجارة السلاح والمخدرات والرقيق الأبيض، تزدهر عند نشوب الحروب والاضطرابات السياسية، وحالات عدم استقرار الأنظمة الحاكمة... وهذا للأسف ينطبق بشكل كامل على واقع عراقنا الحبيب، خصوصاً خلال عقوده الأخيرة.. أما أذا تناولنا السبب الحقيقي لرواج هذه الجريمة فأعتقد أنه من السذاجة التصور أنها لأسباب مادية صرفة، وهنا لا أعني الحلقات الأولى الصغيرة من المُنفذين لها، أنما تلك اللوبيات السرية التي تقف خلفها، والتي غايتها الأساسية من ذلك سلب تراث الشعوب، للحط من قدّرها وتفريغها من أرثها الثقافي الذي تفتخر به، ليكون ذلك جزء من عملية كبيرة وممنهجة، خاصة حين يضاف اليها مشروع افراغ تلك الشعوب من كوادرها وعقولها العلمية وكفاءاتها المهنية لتتحول بمرور الزمن الى مجرد كيانات مسخة لا شكل لها.
ولو أننا أمعّنا قليلاً في دراسة التاريخ لتتبع الجذور الأولى لقضية سرقة ونهب آثار الشعوب، لوجدنا أن العراقيين القدماء كانوا أول من أبتدع هذه القضية ولنفس المبدأ تقريباً (مع الفارق الزمني طبعاً)، حين كان ملوك وادي الرافدين ينهبون كل ما خلفه أسلاف الشعوب المقهورة التي يحتلوها ليجعلوا من تلك الجريمة مفخرة لهم يتباهون بها في مسلاتهم و كتاباتهم الملكية.. ومن أمثال هؤلاء.. الملك (سرجون الأكدي) 2371_2316 ق.م عند احتلاله أرض الشام، أو (آشوربانيبال) 668_626 ق.م عندما قضى على دولة (عيلام)، و(نبوخذنصر) 604_562 ق.م حين سبى مملكة (يهوذا)..... ليأخذ التاريخ دورته فتنقلب الأدوار في عصرنا الحديث لتغدو أرض الرافدين هي ضحية القوى العظمى التي غدت صاحبة الكلمة الطولى في العالم منذ القرون الثلاثة الأخيرة من القرن التاسع عشر.. فكانت سرقة آثار العراق موازية لمراحل تغلغلها السياسي والثقافي فيه، والذي حدث نتيجة ضعف الامبراطورية العثمانية وظهور علامات انهيارها، وفيما بعد غدت مرافقة لعمل الهيئات الاجنبية التي تولت أدارة مؤسسات الدولة العراقية عند تأسيس كيانها في مطلع العشرينات من القرن المنصرم، فتمت خلال تلك الحقب سرقة مكتبة الملك الاشوري آشوربانيبال، واللوحات الجدارية والثيران المجنحة التي كانت تزين قصور وبوابات المدن الآشورية.. آشور والنمرود (كالحو) وخورسباد (دورشروكين) ونينوى، وكذلك الكسوة الخزفية لبوابة عشتار في مدينة بابل، أضافة الى الآلاف من القطع الأثرية الأخرى من أختام اسطوانية والواح مسمارية ومنحوتات بارزة وتماثيل وقطع أثرية متنوعة تعود الى مراحل وفترات تاريخية مختلفة من تاريخ حضارة وادي الرافدين.. لتملئ آثارنا نتيجة تلك الجرائم كبريات متاحف العالم في بريطانيا وفرنسا والمانيا وأمريكا.
وتتوضح لنا بشكل جلي امتدادات هذه القضية الشائكة القديمة المتجددة ومدى علاقتها بالمؤامرات الدولية والاقليمية ممثلة بمنظماتهما المافيوية، من خلال ما لوحظ في العقد الأخير من القرن الماضي، وكيف انتشرت هذه الظاهرة في العراق خلال حقبة الحصار الاقتصادي الجائر، بعد أن تم استغلال الظرف الخاص لوطننا آنذاك فحاولت تلك المؤسسات الصفراء اهانة شعبنا العظيم، من خلال استباحة رموزه الآثارية ودلائل ماضيه الخالد الى مافيات ومُرابي الآثار في الداخل والخارج، حيث تمت سرقة كلاً من متحفي مدينتي (بابل) و(آشور)، وأيضاً سرقة عدد من المنحوتات البارزة في مدينة الحضر التاريخية وكذلك رأس الثور المجنح المكتشف في مدينة خورسباد، بعد أن تم توظيف العديد من السُراق الذين تم أدارة نشاطهم من قبل سماسرة معتمدين امتهنوا تلك التجارة المحظورة... لتتم هذه المسرحية المفضوحة وتلعب آخر أدوارها عند حدوث الاحتلال الأمريكي البغيض لوطننا العزيز عام 2003، وما جلبه من دمار شامل لأرض الرافدين، لتحدث الجريمة الكبرى حينها بحق آثارنا العظيمة، حين نُهب المتحف الوطني بشكل سافر أمام مرأى ومسمع جنود الاحتلال دون يحركوا ساكناً لمنع هذه الكارثة المروعة.. ثم ليستمر هذا المسلسل الاجرامي في زمن سيطرة عصابات (داعش) على مدينة الموصل الشمّاء وما أحدثه هؤلاء من دمار وخراب ونهب بآثارها الشامخة ومعالم تراثها الاصيل.. ليبقى هذا النزيف المميت بآثار بلاد وادي الرافدين مستمراً أمام أعين شعبنا وكل الخيّرين في هذا العالم دون ضماد وعلاج شافي يعيد لأعظم رموز الحضارة الانسانية كرامتها.
1557 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع