خالد القشطيني
يقول الإنجليز إن من عاش في زمن أوسكار وايلد ولم يسمع هذا الكاتب يتكلم في الـ«كافيه رويال» بلندن، فهو كمن عاش في زمن الإغريق القدماء ولم يشاهد معبد البارثنون. أود أن أضيف إليها فأقول: وكمن عاش في بغداد في أيام الوثبة ولم يسمع محمد مهدي الجواهري يتلو قصيدته «أتعلم أم أنت لا تعلم؟»
الوثبة لمن لم يسمع بالوثبة، هي انتفاضة الشعب العراقي ضد معاهدة بوتسموث، التي وقعها صالح جبر من الجانب العراقي وأنطوني إيدن من الجانب البريطاني عام 1948. لم يكن أي منا قد قرأ نصّها أو فهم فحواها. كفانا منها أن بريطانيا كانت الطرف المقابل، فثرنا ضدها وجرت مظاهرات ومذابح دموية بشأنها. كان من ضحاياها جعفر الجواهري، شقيق الشاعر. فاجتمعت في قلب الشاعر عواطف الأسى على مقتل شقيقه، التلميذ في كلية الحقوق، وعواطف الغضب ضد تلك المعاهدة، فتدفقت قريحة الشاعر في قصيدة ملحمية قلما تجد عراقيًا مثقفًا لم يسمع بها أو يحفظ شيئًا من كلماتها. ألقاها الشاعر في الاجتماع الجماهيري الذي عقده المعارضون في مسجد الحيدرخانة المطل على شارع الرشيد، والذي اشتهر بكثير من الاجتماعات الوطنية. لم أكن حاضرًا في ذلك الاجتماع، ولكن ما إن ترددت كلماتها على أفواه السامعين حتى دوى صداها في كل أنحاء العراق. تعالى الطلب على الشاعر أن يعيد إلقاء القصيدة في كل أنحاء العراق. وكان من ذلك مدينة الكاظمية المجاورة لبغداد.
اكتسب مهدي الجواهري نبرة ملائية نجفية خاصة تحببها لنفوس السامعين. ما إن فتح فمه بالإلقاء حتى شعرنا بما يشبه الشحنة الكهربائية تهز مشاعرنا:
أتعلم أم أنت لا تعلم أن جراح الضحايا فمُ
فم ليس كالمدعي قولةً وليس كآخر يستفهمُ
فم يقول للمدقعين الجياع أريقوا دماءكم تُكرم
وأراق الشعب العراقي دمه. ولكنني لم أبذل دمي. بدلا من ذلك، بقيت ألوك واردد كلمات الشاعر إلى اليوم. لست من حفاظ الشعر، ولكن كلمات تلك القصيدة خلدت في نفسي، كما خلدت في نفوس معظم العراقيين. وفي هذه الأيام أصبحنا نتذكر ونردد منها هذه الأبيات، وكأنها نبوءة للعراق:
أخي جعفرَ لا أقول الخيال وذو الثأر يقظان لا يحلم
ولكن بما ألهم الصابرون وقد يقرأ الغيب مستعلم
أرى أفقًا بنجيع الدماء تنور واختفت الأنجم
وجيل يروح وجيل يجيء ونار إزاءهما تضرم
1125 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع