صالح الطائي
تغريدة على تويتر تتحدث عن معنى (شغل) في قوله تعالى: (في شغل فاكهون)، لشخص اسمه (صالح جرمان الرويلي) يبدو من شكله في الصورة أنه من أتباع المدرسة السلفية، والتي قال فيها: إن معنى شغل فض الأبكار، جلبت انتباهي كثيرا، ولاسيما فيما يخص تكاثر الكلام عن الجنس وحور العين مؤخرا، ولأني على يقين تام أن كل ما يصدر عن الجماعات الإسلامية المتطرفة والسلفية له أصل في مباني العقيدة الموروثة، بما لا يدع مجالا للشك، بعيدا عن حقيقة جوهر وجوده فيها، إذا ما كان أصليا أم مختلقا منحولا على التغيير الذي حصل للعقيدة بعد عصر البعثة.
من هنا، قررت مراجعة التفاسير المتوفرة لدي، لأتأكد من صحة هذا الآراء التي قيلت. المدهش أني لم استغرب كثيرا من النتيجة التي توصلت إليها، والتي تتطابق مع ما أؤمن به، حيث تبين لي أن المفسرين الأوائل؛ الذين لا زالت تفاسيرهم هي المعول عليه في فهم القرآن إلى اليوم، كانوا قد أشاروا إلى وجود أقوال لبعض الصحابة وبعض التابعين، تفيد المعنى الذي ذهب إليه الشيخ الرويلي، لكن المهم في الأمر أن هؤلاء المفسرين لم يقفوا على هذا المعنى فحسب، وإنما أعطوا آراء مختلفة أخرى لكن المتأسلمين الجنسيين لم يلتفتوا إليها، وروجوا لمفهوم واحد.
السؤال المهم هنا: لماذا أكد الشيخ الرويلي على معنى واحدا منها، وترك الآراء الأخرى؟ ألا يعني ذلك أن بعض الفرق الإسلامية، تعطي للجنس درجة قد تتساوى مع درجة العبادة، إذا لم تتفوق عليها؟ أو أنها تستخدم الجنس لتحقيق المكاسب؟
ولكي تتضح صورة هذا التناقض المتحيز في آراء الفرق المتطرفة، سأورد آراء مجموعة من المفسرين في معنى كلمة (شغل) ليتبين حجم الرؤية الجنسية في ثقافة بعض مذاهبنا نسبة إلى حجم باقي الرؤى في أقوالهم.
وأول وأشهر معنى أعطوه لها هو: افتضاض الأبكار من حوريات الجنة؛ اللواتي تعود إليهن بكارتهن على الفور، فعن ورود كلمة شغل بمعنى الافتضاض:
قال الطبري في تفسيره: "اختلف أهل التأويل في معنى (الشغل) الذي وصف الله - جل ثناؤه - أصحاب الجنة أنهم فيه يوم القيامة، فقال بعضهم: ذلك افتضاض العذارى. ذكر من قال ذلك:
1ـ حدثنا ابن حميد قال: حدثنا يعقوب، عن حفص بن حميد، عن شمر بن عطية، عن شقيق بن سلمة، عن عبد الله بن مسعود في قوله (إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون) قال: شغلهم افتضاض العذارى.
2ـ حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا المعتمر، عن أبيه، عن أبي عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس (إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون) قال: افتضاض الأبكار.
3ـ حدثني عبيد بن أسباط بن محمد، قال: حدثنا أبي، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: افتضاض الأبكار.
4ـ حدثني الحسين بن علي الصدائي، قال: حدثنا أبو النضر، عن الأشجعي، عن وائل بن داود ، عن سعيد بن المسيب في قوله: (إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون) قال: في افتضاض العذارى.
وهذا ما ذهب إليه القرطبي أيضا، بقوله: قال ابن مسعود، وابن عباس، وقتادة، ومجاهد: شغلهم افتضاض العذارى. وذكر الترمذي الحكيم في كتاب مشكل القرآن له: حدثنا محمد بن حميد الرازي، حدثنا يعقوب القمي، عن حفص بن حميد، عن شمر بن عطية، عن شقيق بن سلمة، عن عبد الله بن مسعود في قوله: إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون، قال: شغلهم افتضاض العذارى. حدثنا محمد بن حميد، حدثنا هارون بن المغيرة، عن نهشل، عن الضحاك، عن ابن عباس بمثله.
وذهب إليه كذلك ابن كثير، بقوله: قال عبد الله بن مسعود، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والأعمش، وسليمان التيمي، والأوزاعي في قوله: (إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون)، قالوا: شغلهم افتضاض الأبكار. وقال ابن عباس في رواية عنه: (في شغل فاكهون) أي بسماع الأوتار. فاعترض عليه أبو حاتم بشدة، وقال: لعله غلط من المستمع، وإنما هو افتضاض الأبكار.
هنا لا يفوتنا القول إن أصول المذهب الإسلامي الذي ولدت من بين جنبيه عقيدة هذه الفرقة، يرفض أن يعطي للنص القرآني أكثر من بعد، ويؤكد على المعنى الظاهر للآية أو الكلمة. ومن ذلك على سبيل تقريب المعنى كلمة (لمستم) في قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} التي فسرها كل جماعة بحسب رؤيتهم، لكنهم جميعا يستندون إلى النص المقدس نفسه، يتخذونه قاعدة لاستنباط الحكم.
لقد فسر علي بن أبي طالب وابن عباس وجماعة غيرهم كلمة اللمس بالجماع، كما في حديث سعيد بن جبير، قال: ذكروا اللمس، فقال ناس من الموالي: ليس بالجماع، وقال ناس من العرب: اللمس الجماع، قال: فأتيت ابن عباس، فقلت: إن ناسا من الموالي والعرب، اختلفوا في اللمس، فقالت الموالي: ليس بالجماع، وقالت العرب: الجماع، قال: من أي الفريقين كنت، قلت: كنت من الموالي، قال غلب فريق الموالي، إن المس واللمس والمباشرة الجماع، ولكن الله يكني ما شاء بما شاء. وحديث ابن وكيع عن سفيان عن أشعث عن الشعبي عن علي، قال: الجماع.
والظاهر أن هذه الكلمة لم تقف عند حد إذ شغلت علماء المذاهب كثيرا حيث ذهب الحنابلة إلى أن مجرد مس أو لمس المرأة ينقض الوضوء، واستدلوا بقوله تعالى: (أو لامستم النساء)، قالوا: الآية مطلقة، وحقيقة اللمس: ملاقاة البشرتين، وهو يقع على ما دون الجماع.
وذهب أتباع أبي حنيفة إلى أن اللمس لا ينقض الوضوء مطلقاً مستدلين على ذلك بحديث عائشة أن النبي كان يقبّل بعض أزواجه ثم يصلي ولا يتوضأ.
وذهب المالكية إلى أن اللمس إذا كان بشهوة فهو ينقض الوضوء، وإن كان بغير شهوة لا ينقض الوضوء. مستدلين على ذلك قوله تعالى (أو لامستم النساء)، قالوا: اللمس باليد مطلقاً، ثم قُيّد هذا اللمس بالشهوة، كما استدلوا على رأيهم بالعقل كما في قولهم: إن اللمس ليس بحدثٍ بذاته، وإنما هو ناقض لأنه يفضي للحدث، فاعتبرت الحالة التي تفضي للحدث وهي حالة الشهوة. هذا مع اتفاقهم على قول: فلا حجة في قول الصحابي إذا وقع معارضاً لما ورد عن الشارع.
أما سبب هذا الاختلاف في معنى كلمة المس فيعود في الأصل إلى ما صدر عن الأوائل من آراء، حيث تبين من النصوص السابقة أن عليا وابن عباس فسرا المس بالجماع، لكن آخرين فسروه بمعنى كل لمس بيد كان أو بغيرها من أعضاء جسد الإنسان ، وأوجبوا الوضوء على من مس بشيء من جسده شيئا من جسدها مفضيا إليه، مستندين إلى قول شعبة، عن مخارق، عن طارق بن شهاب، عن عبد الله أنه قال شيئا هذا معناه: الملامسة ما دون الجماع. وعن المغيرة، عن إبراهيم، قال: قال ابن مسعود: اللمس ما دون الجماع. وعن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود، قال القبلة من اللمس وفيها الوضوء. وعن نافع: أن ابن عمر كان يتوضأ من قبلة المرأة ويرى فيها الوضوء، ويقول هي من اللماس.
ذهب الشيعة من جانبهم إلى أن معنى اللمس: الجماع كما في تفسير الميزان للطباطبائي: قوله: (أو لامستم النساء) هو كناية عن الجماع أدبا صونا للسان من التصريح بما تأبى الطباع عن التصريح به.
وفق هذا النمط الاجتهادي كان لكلمة (شغل) معاني أخرى، إذ نجد من فسر (في شغل) إلى (في نعمة) كما في قول الطبري: وقال آخرون : بل عني بذلك : أنهم في نعمة. ذكر من قال ذلك:
1ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (إن أصحاب الجنة اليوم في شغل) قال: في نعمة.
2ـ حدثنا عمرو بن عبد الحميد، قال: حدثنا مروان، عن جويبر، عن أبي سهل، عن الحسن في قول الله (إن أصحاب الجنة) قال: شغلهم النعيم عما فيه أهل النار من العذاب .
وهذا عين ما ذهب إليه القرطبي، فقال: وقيل: أصحاب الجنة في شغل بما هم فيه من اللذات والنعيم عن الاهتمام بأهل المعاصي ومصيرهم إلى النار، وما هم فيه من أليم العذاب، وإن كان فيهم أقرباؤهم وأهلوهم. قاله سعيد بن المسيب وغيره. وقال وكيع: يعني في السماع . وقال ابن كيسان: في شغل أي: في زيارة بعضهم بعضا.
وعين ما ذهب إليه ابن كثير بقوله: خبر تعالى عن أهل الجنة: أنهم يوم القيامة إذا ارتحلوا من العرصات فنزلوا في روضات الجنات: أنهم في شغل عن غيرهم، بما هم فيه من النعيم المقيم، والفوز العظيم. وقال مجاهد: (في شغل فاكهون) أي: في نعيم معجبون، أي: به. وكذا قال قتادة. وقال ابن عباس: (فاكهون) أي فرحون.
وللطبري رؤية أخرى، حيث قال: وقال آخرون: بل معنى ذلك: أنهم في شغل عما فيه أهل النار. ذكر من قال ذلك:
1ـ حدثنا نصر بن علي الجهضمي، قال: حدثنا أبي، عن شعبة، عن أبان بن تغلب، عن إسماعيل بن أبي خالد، قال: في شغل عما يلقى أهل النار.
ثم خرج الطبري بمحصلة مفادها: "وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال كما قال الله - جل ثناؤه - (إن أصحاب الجنة) وهم أهلها (في شغل فاكهون) بنعم تأتيهم في شغل، وذلك الشغل الذي هم فيه نعمة، وافتضاض أبكار، ولهو ولذة، وشغل عما يلقى أهل النار.
أما ابن كثير فقال: قال الحسن البصري وإسماعيل بن أبي خالد: (في شغل) عما فيه أهل النار من العذاب.
ثم قال ابن كثير: وقال ابن عباس، في رواية عنه: (في شغل فاكهون) أي بسماع الأوتار.
وهكذا تلاعبت أقوال المفسرين بمخيلة المسلمين وفتحت لهم آفاقا رحبة للحلم بما يشتهون، ولأننا أمة جنسية بطبعها فقد جلبت فكرة (افتضاض الأبكار) انتباههم، وتعلقوا بها دونا عن جميع الأفكار الجميلة الأخرى، وعلى مر التاريخ وجدت هذه الفكرة من يدعو إليها ويروج لها، ختمت داعش ذلك بفتوى (جهاد المناكحة) التي أفتى لهم بها أحد الشيوخ السلفيين. ويعني هذا أن الأمة معذورة فيما تفكر فيه بعد أن ملأ أهل الإفتاء عقول أبنائها بالجنس والحديث عنه!
1004 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع