الدكتور/ علي محمد فخرو*
أن تمرّ مصر في محن واضطرابات فترات ما بعد الثورات؛ فهذا أمر طبيعي واجهته كل الثورات الشعبية الكبرى. لكن الشيء غير الطبيعي هو ألا تجد في محيطها العربي من يمدُّ لها يد العون القومي الأخوي للخروج من أخطار تلك المحن والاهتزازات.
وبالطبع نحن نشير هنا إلى من يستطيعون المساعدة بكل يسر وسهولة، وبالأخصّ دول البترول والغاز العربية، وبصورة أخص من لديهم فوائض مالية.
نحن هنا لا نتوجّه إلى هؤلاء باسم الالتزامات القومية العروبية أو مقولة إنُ المؤمنين هم كالبنيان المرصوص، فكثير من مسئولي العرب يعتبرون تلك المقولات من الهلوسات الأخلاقية والهرطقات الإيديولوجية التي تجاوزها الزمن العربي، الرّدئ منه والعولمي.
دعنا إذن نتحدّث عن المصلحة الذاتية الضيّقة لهذه الدول. أليس من مصلحتها، وهي التي غالبيتها دول صغيرة أو مكشوفة، أن يوجد توازن ندّي عربي في منطقة الشرق الأوسط أمام تعاظم النفوذ غير العربي سواءً أكان نفوذاً لدول إسلامية كإيران أو تركيا، أو نفوذاً صراعيّاً حياتيّاً متوجّهاً ضد الوجود العربي كالكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة، أو نفوذاً لدول استعمارية تطمح إلى ثروات الأرض العربية وفي مقدّمتها ثروة البترول والغاز كالولايات المتحدة الأميركية أو بعض الدول الأوروبية؟ ثم إذا كان وجود التوازن الندّي العربي أمام تلك القوى الهائلة ضروريّاً، فمن يا ترى يمكن أن يقوم بهذا الدور؟ أليست مصر مهيّأَة، تاريخيّاً وحجماً وكثافة سكانية، كأفضل لاعب لهذا الدّور؟ وخصوصاً بعد أن دُمّر العراق الندُّ القويُّ في منطقة الخليج العربي ويجرى الآن تدمير سورية، الندّ القوي في المشرق العربي الآسيوي.
من هنا؛ هل كان كثيراً على دول مجلس التعاون الخليجي البترولية، وقد كان دخلها من الثروة النفطية - الغازية خلال العام 2012 يزيد على ألف وخمسمائة مليار دولار، ويفاخر بعضها بالفوائض الاحتياطية؛ هل كان كثيراً عليها أن تعطي مصر قرضاً بمقدار عشرين أو حتى خمسين ملياراً من الدولارات تدفعه تدريجيّاً بعد خمس سنوات من الإعفاء مثلاً، وبعد أن تكون قد بدأت تتعافى من الآثار المدمّرة لفترة النهب والفساد والاستباحة السابقة للثورة؟ ألم يكن مخجلاً أن تضطرّ مصر إلى الارتماء في أحضان مؤسسة امبريالية، معروف مدى خدمتها للسياسات الأميركية، كصندوق النقد الدولي، وذلك من أجل الحصول على قرضٍ هزيلٍ لا يزيد على خمسة مليارات دولار، وبهذا تعرّض نفسها وثورتها للابتزاز والارتهان، وتضطر إلى أن تغامر بسمعة ثورتها أمام شعبها وأمام أمتها العربية التي بنت الآمال على مصر الجديدة المتحررة لتعاود احتلال القلب من هذه الأمة، بعد أن نجح النفوذ الأميركي - الصهيوني في تفريغ ذلك القلب من جذوة وعنفوان مصر الناصرية عبر الأربعين سنة الماضية؟ أيقع كل اللوم على دول البترول العربية الغنية؟ أبداً، إذ إن جزءاً مساوياً من اللوم يقع على الممارسات السياسية، الرسمية والمدنية، الخاطئة وأحياناً العبثية، التي تميزت بها الفترة الانتقالية لما بعد ثورة مصر الناجحة المباركة. وهنا يجب أن يقال كل شيء بصراحةٍ وبدون أية مجاملات.
لقد كان لزاماً على كل قوى الثورة الشبابية أن تكوّن من نفسها جبهة واحدة متفقة على إستراتيجية انتقالية واحدة، وأن تنأى بنفسها عن متسلقي قطار الثورة الانتهازيين والأسماء الرنانة الوجاهيّة الفارغة من أيّ مضمون ثوري... لكنها لم تفعل.
لقد كان على الإخوان المسلمين أن يدركوا المعنى العميق الحقيقي لانحياز الناخبين إلى مرشّحيهم في شتى الانتخابات والذي لم يكن أكثر من اختيار للأحسن من بين الكثيرين من السيئين، المتمثلين في قوى الثورة المضادة المتخفية، أو الفاشلين أو الانتهازيين أو الهامشيين أو الجيّدين ولكن يمّيزهم الضعف والتشتُّت ومحدودية التواجد في المشهد الشعبي السياسي - الاجتماعي الهائل. فلو وعوا ذاك لتجنبوا ارتكاب حماقة الاعتقاد بأن اختيارهم كان تفويضاً سياسيّاً مطلقاً من دون الآخرين. لو وعوا ذلك لما أقدموا على اتخاذ أي قرار أساسي من دون استشارة الآخرين، من غير قوى الثورة المضادة بالطبع، ومحاورتهم والالتقاء معهم في منتصف الطريق، وتأجيل المختلف عليه إلى ما بعد الانتهاء من الفترة الانتقالية.
لقد كان منظراً مفجعاً لجموع شعوب الأمة العربية الآخرين؛ وهم يشاهدون المسيرات المتصارعة ذات النّفَس الآنيٍ الطفو لي وهي تجوب شوارع مصر، معطلة فضائل التسامح والأخوة الثورية والعمل ضمن الأولويات الكبرى واجتناب الوقوع في أفخاخ بعض الإعلام المهيج البليد، ومعايشةً يوماً بعد يوم صخباً في الشوارع وسكوناً تامّاً في أروقة المداولات والأخذ والعطاء. لقد كان منظراً وضع الجميع في قفص الاتهام، ولا يزالون فيه.
أولئك جميعاً، بصور متفاوتة قي الخطايا والمسئولية، ساهموا من حيث يعلمون أولا يعلمون في تشتيت ذهن القوى المدنية العربية الكثيرة المساندة لثورة مصر العظيمة، من التركيز على حاجات مصر البالغة الأهمية التي كتب عنها الكثير ولا تحتاج إلى إعادة. تشتيت الذهن هذا، مقروناً بلؤم بعض القادرين الأغنياء؛ جعل الأنظار العربية تكتفي بالتفرُّج على دراما العبث الذي عاشته مصر خلال الشهور الماضية بفعل أخطاء الداخل ومؤامرات الخارج.
هل مارسنا القسوة في هذه الكلمات المختصرة؟ أبداً، ذلك أن مصر العظيمة العزيزة على قلب كل عربي كانت تستحق أقل بكثير مما حدث لها، وكانت تستحق أكثر بكثير مما كان يجب أن يحدث من أجلها.
*طبيب وأكاديمي من البحرين
768 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع