د.محمد عياش الكبيسي
انطلق الربيع العراقي بصورة سريعة ومفاجئة، ثم توسعت دائرته لتشمل المنطقة الأوسع من الخارطة العراقية، بيد أن السيناريو الذي سيرسمه هذا الربيع وصورة التغيير المنشود غير واضحة لحد الآن –هذا على الأقل بالنسبة للذي يراقب الأحداث عن بعد- حيث إن الحالة العراقية مختلفة عن كل حالات الربيع العربي السابقة، وربما اللاحقة أيضا، كما أن الحشود الجماهيرية التي نزلت إلى الشارع فجأة لا يمكن أن تكون قد حددت خارطة الطريق للوصول إلى أهدافها بل ربما لم تتفق حتى على تحديد الأهداف وترتيب أولوياتها.
النقطة الجوهرية التي يمكن اعتبارها المحرك الأساس لهذه الانتفاضة هي (الشعور بالظلم) فأهل السنة في العراق يشعرون اليوم أنهم يعاملون وكأنهم مواطنون من الدرجة الأدنى، أو أنهم يشكلون عبئاً غير مرغوب به في العراق الجديد، وقد تعاظم لديهم الشعور بالخطر وهم يرون اتفاقاً أميركياً إيرانياً على استئصالهم، أما الأميركيون فلما ألحقته بهم المقاومة من خسائر مادية ومعنوية أكبر من أن تحصى، وأما الإيرانيون فلا شك أنهم يعتبرون السنة العراقيين هم العقبة الأخيرة أمام مشروعهم الإمبراطوري التوسعي، إضافة إلى نزعة الثأر والانتقام من أحفاد الصحابة الفاتحين الذين أزاحوا عن الوجود شيئاً ما كان يسمى «الإمبراطورية الفارسية».
تحرك الشارع السني بدافع واضح ومتفق عليه إلى حد الإجماع وهو الشعور بالظلم، وتعبيراً عن هذا الشعور كان المتظاهرون يرفعون صور رافع العيساوي وربما الهاشمي والدليمي تعبيراً عن الشعور بالظلم السياسي، ويرفعون كذلك صور المعتقلين والنساء المعتقلات تعبيراً عن الشعور بالظلم الإنساني والمجتمعي والذي وصل إلى حد المساس بالشرف الذي تصغر أمامه كل البشاعات والمظالم الأخرى.
هذه النقطة التي التفّت حولها الجماهير وبشكل عفوي وغير مسبوق هي النقطة الوحيدة التي يمكن اعتمادها لمعرفة البوصلة الموجهة لكل فعّاليات الحراك وأدبياته، وكل عنوان آخر مهما كان مقنعاً لأصحابه لا يمكن أن يكون نقطة ارتكاز جامعة لهذه الحشود، بل ربما يكون أداة لشق الصف وتشتيت الجهود، فلو أخذنا مثلاً ما يطرحه البعض من الدعوة إلى رفض العملية السياسية ونتائجها وكل المشاركين فيها.. إلخ فما الذي سنخسره في هذا الطرح؟
أولا: من الواضح في كل ميادين الانتفاضة الحضور القوي لرموز السنة السياسيين، فلم تخل مظاهرة واحدة من مشاركة لوزير أو برلماني أو محافظ أو أعضاء في مجلس محافظة.. إلخ والتأييد الجماهيري لكل هؤلاء واضح، ولا يمكن إنكاره أو التشكيك فيه-اتفقنا معهم أم اختلفنا- بل إن هناك من يمكن اعتباره محركاً فعلياً للانتفاضة مثل رافع العيساوي وأحمد العلواني وأثيل النجيفي، مما دعا المالكي إلى المطالبة برفع الحصانة عنهم، وفرقت الجماهير بين السياسي المؤيد لمطالبهم، والسياسي الآخر كما حصل لصالح المطلك، والذي يحاول الآن أن يصحح موقفه.
ثانيا: القبائل العربية السنية كان لها الحضور المميز، ونستطيع القول بكل ثقة: إن عشائر الدليم في الرمادي خاصة ومعهم كل عشائر الأنبار هم من يقوم فعلياً برعاية الانتفاضة وحمايتها ومساندتها، وشيوخ هذه العشائر وواجهاتها الرئيسة كلهم أو أغلبهم على صلة وثيقة بالرموز السياسيين.
ثالثاً: مجالس المحافظات، وهؤلاء منتخبون محلياً من أبناء محافظاتهم، وقد تميزت مواقفهم بالتأييد المطلق للانتفاضة، إلى الحد الذي أعلن فيه مجلس محافظة الأنبار إجازة رسمية لكل المشاركين في الانتفاضة من موظفي الدولة!
رابعا: القوى الأمنية المحلية وهي أجهزة تشكلت من أبناء المحافظات وبالتالي فهم يشعرون بأنهم جزء من هذه الانتفاضة، فآباؤهم وإخوانهم وأبناء أعمامهم هم الذين يحتشدون في الساحات، ولا يمكن لهؤلاء إلا أن يكونوا مع أهلهم، وهذا ما حصل بالفعل، وهذا ما ينبغي أن نعمل على استمراره وديمومته.
خامسا: الكرد وهم الشطر الثاني للسنة، وهؤلاء كلهم بقياداتهم وأحزابهم وفعالياتهم الشعبية داخلون في العملية السياسية وهم ركن من أركانها، وهؤلاء اليوم قد أدركوا خطورة المالكي ومشروعه الطائفي الإقصائي، وقد عبروا عن تعاطفهم وتأييدهم المطلق للانتفاضة، إلى الحد الذي أعرب فيه مسعود البرزاني عن استعداده لاستضافة أي سنّي عربي حتى لو كان عزة الدوري، وقد كانت الأعلام الكردية ترتفع في مظاهرات الأنبار، وكان للخطباء الكرد كلمات تضامنية قوية ومميزة.
إن هناك من لا يتورع عن الدعوة لتوجيه الانتفاضة بالضد من كل هذا التيار الداعم والمساند، وهي ذات التجربة التي وقعت فيها القاعدة، حيث أعلنت حربها على جميع مخالفيها رأياً وسياسة وإدارة، وكانت النتيجة أنها لفّت الحبل على عنقها بعد أن أربكت مشروع المقاومة وأفسدت الأجواء الحاضنة لها بشكل أكثر مما كان يتمناه الأميركيون والإيرانيون.
هناك من يطرح عنواناً آخر وهو(الإقليم السنّي) ولا شك أن هذا الطرح يمثل أقصى درجات الشعور بالظلم والخوف على مستقبل الوجود السنّي في العراق، وهو شعور واقعي لا يمكن القفز عليه، ولكنه قد يسبب إرباكاً داخل الجمهور المنتفض، حيث لم يتمكن دعاة الإقليم من تشكيل قناعة واسعة يمكن اعتمادها كنقطة ارتكاز جامعة، لاسيَّما أن الروح المعنوية العالية والمتصاعدة قد ترفع السقف إلى حد إسقاط المالكي وإلغاء كل البنى القانونية والسياسية التي اعتمدها المالكي في سياسة التهميش والإقصاء.
إن المطالب المشتركة لكل المتظاهرين والتي أعلنتها اللجان الشعبية المنظمة لهذه التظاهرات في كل المناطق تنسجم تماماً مع تلك البوصلة ويمكن تلخيصها بالآتي:
1 - إطلاق سراح المعتقلين، والنساء المعتقلات بشكل خاص، وتفعيل قانون العفو العام، ومحاسبة المجرمين الذين قاموا بإساءة المعاملة للمعتقلين والمعتقلات.
2 - إغلاق جميع الملفات التي تستهدف القيادات السنية، والكف عن تسييس القضاء، وإلغاء قانون 4 إرهاب الذي يستخدم بشكل مكثف لاستهداف رموز السنة.
3 - تحقيق التوازن في كل مؤسسات الدولة ومنها المؤسسات العسكرية والأمنية.
4 - تشريع قانون لحماية الخصوصية الثقافية لأهل السنة وكل فئات الشعب العراقي، والكف عن التجاوزات التي تمارس بشكل منظم في المناهج الدراسية ووسائل الإعلام الرسمية.
5 - تسليم الملف الأمني في كل محافظة لقوى الأمن المحلية، ومنع المداهمات التي يقوم بها الجيش بتوجيه مباشر من الحكومة المركزية.
هذه المطالب ليس فيها أية دعوة طائفية، وليست موجهة ضد أي مكون من مكونات الشعب العراقي، كما أنها نزيهة تمام النزاهة عن شبهة التسييس لهذا الحزب أو تلك القائمة، إنها باختصار لا تدعو إلا إلى رفع الظلم عن أهل السنة والذي طالهم بشكل مكثف ومركز من1/4/2003 وإلى اليوم.
هناك من يقول: إن الظلم لم يقع على أهل السنة فقط، فلماذا لا يتحول الربيع السني إلى ربيع عراقي؟ وهذا تساؤل وجيه، فالحكومة ظلمت الشعب العراقي كله، والمحافظات الجنوبية لا تختلف عن المحافظات السنّية من حيث البطالة وسوء الخدمات وتهديم البنى التحتية، بيد أن المحافظات الجنوبية لا تتعرض لمسخ في هويتها، أو تهميش لدورها السياسي أو انتهاك لأمنها وحرمة نسائها.. إلخ، ومع هذا فإن الباب مفتوح لكل المظلومين للمشاركة والمساهمة بدفع الظالم وإيقافه عند حدوده، بل إن رفع الظلم عن السنة لا يصب لصالح السنة فقط بل هو مصلحة وطنية عليا، فماذا يستفيد العراق من إقصاء دور مكون أساس من مكوناته الرئيسة؟
لقد عبّر أهل السنّة عن ترحيبهم بالوفود الرمزية التي جاءتهم من المحافظات الجنوبية، مع أن السياق يقتضي مطالبتهم بالتظاهر في محافظتهم، إن لم يكن بدافع رفع الظلم عن شركائهم فليكن بدافع رفع الظلم عن أنفسهم.
حقيقة أن المالكي ليس متهماً بتهميش السنّة وظلمهم وانتهاك حقوقهم فحسب، بل هو متهم بتسليم العراق كله لدولة أجنبية لها أطماعها الثأرية والانتقامية من العراق وهويته وتاريخه، وهو متهم بالعمل على تمزيق النسيج الاجتماعي للعراقيين، واختطاف مآثرهم الحضارية ومواردهم الاقتصادية، إنه لم يعد مؤتمناً حتى على هواء العراق وترابه، وبالتالي فهناك أكثر من مبرر يصل إلى حد الضرورة لصناعة الربيع العراقي وفي كل المحافظات العراقية..
747 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع