علاء الدين الأعرجي
محام/مفكرعربي، عراقي مقيم في نيويورك
ذكريات حبيبة: عميقة وعريقة
في ليلة صيفية مقمرة ، بينما كنت أغطّ في نوم عميق على سطح منزلنا في حي "الكرادة الشرقية" السكني( الجميل والهادئ، حتى الخمسينيات من القرن الماضي). إذ كان من عادات العراقيين الحبيبة، النوم في ليالي الصيف القائظة، على سطوح المنازل، في الهواء الطلق، تحت سماء ساحرة، مُرَصّعة بملايين النجوم النيّرة؛ في تلك الليلة استيقظت على أصوات جَلبَة وصراخ ، فقفزت من الفراش مرعوباً، وكانت أمي ما تزال تغسل أواني العشاء، فسألتها بقلق ما الخبر يا أمي؟ فطمأنتني بابتسامة عريضة، وقالت: انظر إلى القمر! رأيته مثلوماً، بعد أن كان قرصاً رائعا ً كاملا ً، حين كنا قبل أكثر من ساعة نتناول العشاء العراقي التقليدي اللذيذ: البامية والتمن العنبّر(الرز العراقي العريق الذي يزرع في مناطق الجنوب).
وفي هذه الأثناء، وأنا ما أزال قلقاً وحائراً، فوجئت أكثر، بجيراننا الملاصقون، إذ أخذوا بالضرب على القدور والأواني المعدنية بالعصي والمطارق، ويرفعون عقيرتهم بالصراخ وينشدون :
يا حوته يا منحوتة
هِدِي كمرنا العالي .
هوه كمرنا الجاري
هذا كمرنا نريدة
هوه علينا غالي
أي يا حوتة – مؤنث الحوت - اتركي قمرنا الغالي ولا تبتلعينه .
وطبعا كنت ما أزال أسبح في ألغاز ومَعميات، عبّرتُ عنها بحَيْرَة، حين هرعتُ إلى والدي الذي ما برَح غارقا ً في مطالعة كتابه بجانب المصباح الخافت الوحيد على سطح المنزل. فشرح لي باختصار سبب ظاهرة خسوف القمر الطبيعية. وقال إن الناس البسطاء يعتقدون أن القمر ابتلعه الحوت الشرير، لذلك يصرخون ويضربون الأواني لتخويفه وطرده أملاً في استعادة قمرهم الحبيب .
المهم أن هذه الحادثة وغيرها من عشرات العادات والخرافات السائدة في مجتمعنا المتخلف ظلت تختمر في ذهني، ما جعلني أفكر بعد سنوات طويلة بتحليلها وتنظيرها في فرضيات ثم نظريات منها نظرية " العقل المجتمعي" الذي يسيطر على "العقل المنفعل" لمعظم أفراد المجتمع ، فيستسلمون له بدون وعي.
القتل غسلا للعار
ومن الأمثلة الأخرى على سلطة "العقل المجتمعي"، الذي يخزن الثقافة الشعبية غير العالـِمة، بوجه خاص،(وهنا أختلف مع أستاذي الجابري، الذي أهمل الثقافة الشعبية، واعتمد الثقافة العالمة حصراً . انظر دراستي في مجلة "الدوحة" تحت عنوان" اختلافي مع الجابري" العدد 35، آب/ أغسطس 2010، ص ،86)؛ أقول من تلك الأمثلة، نشير إلى جريمة القتل غسلا ًللعار المنتشرة في معظم البلدان العربية والإسلامية، التي يذهب ضحيتها عدد كبير من الفتيات البريئات أو المُغرر بهن، من جانب بعض الرجال الأشرار، أو المغتصبات قسرا ً، اللواتي يُقتلن صبرا ً لمجرد الشبهة أحياناً.
وأتذكر بألم وصدمة عنيفة حين حضرتُ، في صباي، عندما نشأت في بغداد ، بعض هذه المآسي. ففي تظاهرة احتفالية دامية، قَتَلَ الأخ أخته أمام المقهى الشعبية المجاورة. وكان الرجال يشجعونه، والنساء يَصرخْن ويُزَغْرِدْن، ورجال الشرطة يتفرجون ولا يتدخلون. وبعد أن تلفظت الضحية المسكينة أنفاسها الأخيرة، يرفع الشاب خنجره الدامي صارخاً:
" بدمها غسلتُ الدار من العار".
ويكرر هذا القسم بطريقة هيستيرية عدة مرات.
ويُسَلّم نفسه لمفرزة الشرطة التي تشهد هذه الجريمة الفظيعة بدون أن تمنعها، فيستقبلوه بترحيب واحترام، وكأن المسرحية التراجيّدية مُدبرة سابقاً . ويذهب مصحوباً بكوكبة من رجال الحيّ "المحترمين" الأشداء إلى مركز الشرطة، حيث يُستقبل بحفاوة وتقدير. ثم يُحكم عليه فيما بعد بالسجن المخفف لستة أشهر فقط، تنتهي فيخرج كبطل مغوار مكلل بأكاليل الغار والشرف. علماً أن هذا الشاب نفسه كان معروفاً في الحيّ بالابتذال الجنسي الفاضح.
وعلمتُ فيما بعد، أن الكشف الطبي على الضحية، أثبتَ عفتها ، بعد فوات الأوان،. ومن المعروف أن هذه الجرائم البشعة مخالفة تماماً للشريعة الإسلامية، ومع ذلك تُرتكب، لأن "العقل المجتمعي" أقوى من الدين.(وقد فصّلت وحلّلت أسباب ذلك في كتابي "الأمة العربية بين الثورة والانقراض؛ بحث في نظرية العقل المجتمعي، تفسيراً لأزمة التطور الحضاري في الوطن العربي". وهو مُتاح مجاناً على الإنترنيت).
ملحق
قصيدة عميقة ومؤثرة كتبتها الشاعرة العراقية المعروفة نازك الملائكة ربما عن نفس الحادثة كما أظن. من يدري! لعلها كانت متلحفة ومتنكرة بعباءتها. لأنها كانت تعيش مع أسرتها قريباً جداً مِنّا. وكانت بيننا علاقات ترتبط بالزمالة الأستاذية الطويلة بين والدها الأستاذ صادق الملائكة ووالدي الأستاذ صادق الأعرجي. القصيدة:
غسلا للعار
أماه وحشرجة ٌ ودموع وسواد
وانبجس الدم واختلج الجسم المطعون
والشعر المتموِّج عشش فيه الطين
(أماه) ولم يسمعها إلا الجزار
وغداً سيجيء الفجر وتصحو الأوراد
والعشرون تنادي والأمل المفتون
فتجيب المرجة والأزهار
رحلت عنا... غسلاً للعار
ويعود الجلاد الوحشي ويلقى الناس
(العار) ويمسح مديته (مزَّقنا العار)
ورجعنا فضلاء بيض السمعة أحرار
يا ربَّ الحانة أين الخمر وأين الكاس
نادِ الغانية َ الكسلى العاطرة الأنفاس
أفدي عينيها بالقرآن وبالأقدار
املأ كاساتكَ يا جزار
وعلى المقتولة غسلا العار
وسيأتي الفجر وتسأل عنها الفتيات
"أين تراها" فيردُّ الوحش "قتلناها"
وصمة ُ عار في جبهتنا وغسلناها
وستحكي قصتها السوداء الجارات
وسترويها في الحارة حتى النخلات
حتى الأبواب الخشبية لن تنساها
وستهمسها حتى الأحجار
غسلا للعار... غسلاً للعار
يا جارات الحارة يا فتيات القرية
الخبز سنعجنه بدموع مآقينا
سنقص جدائلنا وسنسلخ أيدينا
لتظل ثيابهم بيض اللون نقية
لا بسمة لا فرصة لا لفتة
فالمدية
تراقبنا في قبضة والدنا وأخينا
وغداً من يدري أي قفار ستوارينا
غسلاً للعار
1272 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع