بدري نوئيل يوسف
نحن في الزمن الذي أضاع الحكاية الشعبية وتوارى وراء التطور التقني الهائل وظهور الوسائل الإعلامية الحديثة و انتشار الاجهزة الذكية ولم تعد عبارة (كان يا ما كان) تغري أطفال ولن يتذكروا جداتهم ولحكاياتهن وصوتهن وتجاربهن ومعاناتهن ذلك البريق والسحر، وأصبحت الجدة الحكواتيه مجرد ذكرى ولم يبقى للجدات اطال الله اعمارهن أكثر من عمل بسيط في منزل ابنها أو ابنتها يتمثل عملها في تقشير الباذنجان والكوسة وتنقية حبات العدس او الرز من الشوائب واستبعاد كل دخيل منه فتهيئه قبل الطبخ لتقدمه إلى أفراد عائلتها نقيا من كل ما يمكن أن يكدر عليهم وجبتهم.
لقد كان للجدة في محيط الأسرة دور هام وحيوي في ذلك الزمن القديم، لم تكن امرأة مسنة مجرد تعد السنوات الباقية من عمرها ولن تكن كما الآن عاجزة مرمية في دور العجزة او تبحث عن ابنها المفقود أو المرمي في السجون
بل كانت ذات تجربة معلمة ومربية ومؤسسة تربوية من خلال الحكايات والأمثال والحكم والأغاني والأهازيج الشعبية التي تقدمها محملة بجمالية السرد وأسلوبها الساحر والمشوق مفعمة بالمخيلة الخصبة وتغرس القيم والأخلاق النبيلة في قلوب الاطفال ومخزونها من تراث الأمة وتاريخها وحضارتها لا يكاد ينضب من المخيلة الجماعية عن اعتقادات المجتمع وأعرافه وثقافته.
اتذكر تلك الحكاية الساذجة التي سمعتها من جدتي حكاية الخنفساء التي لا تتعدى ظاهرياً خيالات اطفال واذكر ما تعلق بخاطرتي منها لتكون صورة صادقة لمجتمعنا في ذلك الحين .
تقول جدتي: كان يا ما كان على الله التكلان كل من عليه ذنب يقول التوبة واستغفر الله .
كان في الزمن القديم خنفساء عندها بيت صغير، وفي يوم من الايام كانت تكنس وتنظف حوش البيت عثرت على بارة (عملة نقدية قديمة) ولما كنست غرفة النوم عثرت على بارة أخرى وهكذا اصبح لها خمسه بارات من تنظيف جميع مرافق المنزل، ذهبت الخنفساء الى العطار واشترت لها الحمرة وقلم كحل وعادت الى بيتها، بعدما وضعت الخنفساء المساحيق والأصباغ على وجهها وكحلت عيناها وارتدت اجمل ثيابها قعدت على عتبة باب منزلها تعرض نفسها للشباب لعل احدهم يتقدم لخطبتها، وكانت هذه الخنفساء محظوظة فقد تقدم كثير من الشباب لخطبتها، كان أولهم النجار والحداد فالخياط فالبناء ثم التاجر وكلهم حببُ اليها نفسه ومهنته ومناها بأعظم الاماني، فعرض عليها النجار أن يصنع لها الاثاث الجميلة، والحداد أن يصنع لها المصنوعات الحديدية الجميلة، والخياط ان يخيط لها نوادر الحلل والملابس والبناء يبني لها داراً فخمة والصائغ يصوغ لها اجمل الحلى الذهبية الجميلة، والتاجر يجلب لها البضائع النادرة من اقصى البلدان ولكنها رفضتهم جمعيا، ولكنها رفضتهم جمعيا بغضب وتعالِ وكانت تقول لكل واحد منهم (أنا بيضاء ونقية ويزين وجهي لون وردي ساحر فمن أنتَ حتى اتزوجك) وأتذكر اللفظ العامي لهذه العبارة ((وي خنفس خنفس امك والبغلة ترفس امك أنا بيضاء نقية وخدودي قرمزية أنت اشنك دا آخذك)).
وهكذا استمر الحال فمر عليها بياع المعسل ورفضته، ومر القاضي راكب حماره، ورفضته وأخيرا تقدم اليها الجرذ فردته اولا ثم سألته ماذا تعمل فقال لها: أنا كل يوم اقدر ادخل بيت السلطان واسرق الدهن والعسل والجوز والبندق والفستق وأقدم لك كل ساعة ما لذ وطاب من الطعام والشراب، ويظهر أنها كانت شرهة نهمة للأكل، أو يمر البلد بمجاعة في ذلك الحين بهدد كل حي، فوافقت على الزواج منه ولم تمضي مدة طويلة على زواجها دخل الجرذ منزل السلطان و قفز في دن من الدهن فصار وسطه وابتلعه ومات، وفي اليوم التالي دخلت الخادمة لتجلب الدهن ورأت الجرذ غارقا في الدهن فأخذت تصرخ وتنادي سيدة المنزل زوجة السلطان وتجمع الخدم حولها واخذوا دن الدهن ورموه في الشارع، انتظرت الخنفساء عودة الجرذ حتى المساء وأخيرا خرجت تبحث عنه فوجده مرمي في الشارع بالقرب من منزل السلطان، وأخذت تبكي وتلطم على حالها وتردد كيف رفضت الكثيرين وتعلقت بالجرذ، وفي الختام تقول:(جدتي كنا عدكم وجينا لو كان بيتكم قريب كان جبنا لكم حمل زبيب وتقسموه حفنه لكل طفل وتذكر اسماء الاطفال المتلفين حولها) .
اعتقد ترمز هذه الحكاية الى امور كثيرة وفيها دروس وعبر، فهي تبين كيف أن البسطاء يغرهم الدجالون فيوقعوهم في حبائلهم، وكيف أن كثيرين من التافهين اذا وجدوا لهم مظهرا يغطيهم ليجبروا ويكبروا كما فعلت الخنفساء، ولكن غرورها اوقعها في الفخ ،كما تشير هذه الحكاية الى ناحية مهمة وهي ان الطعام اول من يطلبه الانسان والحيوان لان سبيله الوحيد البقاء ولهذا فضلت عرض الجرذ .
كما وأن الخنفساء تمثل الأنوثة التي لها مطالب غريزية في الحكاية، تمثلت في الرغبة الجامحة للزواج والاستقرار مع يقدم لها عرض مثالي تقتنع به وتجسد دور الفتاة التي تتخذ أي قرار دون الرجوع إلى موافقة ومباركة الاهل، ورسالة واضحة للفتيات بعدم القدوم على أي قرارات خاصة، وفي نفس الوقت تعطي نوع من حرية اختيار من تحب و تعشق فيكون اختيار الزوج لا يصاحبه التوفيق، وجاءت لتعكس خلاصة تجارب، وتعطي صورة نابضة حية عن واقع الأمة عبر مراحل تاريخها الطويل، تتجلى فيها حكمة الشعب وعصارة تجاربه وتفاعله في المراحل التاريخية التي عاشها، وتعطي وصفاً لبعض الجوانب من الحياة الإنسانية فتعيد لذاكرة الأبناء صورة من تاريخهم وتراثهم العريق.
نلتقي الاسبوع المقبل والحكاية الثالثة بعون الله.
2931 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع