د. تارا إبراهيم
معرفتي بالمجتمع الفرنسي لا تقتصر فقط مع الطلاب الذين ادرسهم وطريقة التعامل معهم، فهذا نطاق آخر من التعامل له حدوده ويجب ان يكون مهنيا بحتا، ولكن مداركي أتسعت لتشمل التعمق في المجتمع من خلال تحليل تصرفات وأقوال الناس الذين اتعامل معهم كالاصدقاء والاشخاص الذين اعمل معهم كل يوم .
ربما ان هذا المجتمع لطالما سحرني، أو سحر الانسانة الشرقية التي بداخلي، كونه مجتمعا غربيا وغريبا عني يتبنى كل ما هو بعيد مما نحن تربينا وكبرنا عليه من قيم ومبادئ او بدافع الفضول والتعلم و انتقاء كل ما هو ايجابي ونبذ السلبي منه...لذا ساحاول ان أغطي بعض المواقف الصغيرة التي قد تدعو الى التفكر وفهم هذا المجتمع ..
يقال دائما ان الضربة التي لاتقصم ظهري، فهي تقويني أكثر، وهو مثل اعتاد عليه الجميع ويعرفونه هنا، ومن الممكن إستخلاص او إستنتاج مضمونه، لكن هل هذه القوة هي ايجابية ام سلبية ؟ هل هي سيئة ام جيدة ؟ في قسم الذي ادرس فيه، اصيبت أستاذتان بمرض السرطان، ولقد حزننا جدا نحن الهيئة التدريسية لهاتين الاستاذتين، ولكنهما شفيتا بأعجوبة كونهما لم تصلا الى مرحلة العلاج الكيميائي، لقد تم استئصال العضو المصاب فقط ، وكم فرحنا لعودتهن الى القسم بعد غيابهن. كنت اعتقد وحسب المفاهيم المعروفة ان الانسان عندما ينجو من الموت وبمعجزة، يجب ان يحب الحياة وان يتمسك بها، بل ويحاول ان يقوم بفعل الخير ويعتبر من تجربته، ولكن الامر الغريب الذي لا حظته ان هاتين الاستاذتين تغيرتا وأضحيتا عدوانيتين وخصوصا مع الطلاب، علما انهما لم يصابا بالمرض في الوقت نفسه بل كان الفرق عدة سنوات في اصابتيهما...فكلما كنا نناقش امورا لصالح الطلاب في مجلس القسم، كانتا تقفان ضد قراراتنا دائما، لدرجة ان احداهن لقبت من قبل الطلبة بالشريرة . وكانتا قلقتين دوما تبدو على وجهيهما وتصرفاتهما مظاهر الشك والريبة . أمر لم أفهمه او فهمي المتواضع لم يستوعبه !!.
لإحدى صديقاتي الفرنسيات شقيق، لا يمكنهما انجاب الاطفال، لذا قررا الذهاب الى مستشفى في برشلونة المشهورة باقتراح حلول طبية غريبة عجيبة في هذا المجال كون القانون الفرنسي حدد الطرق الطبية لحل هكذا نوع من المشكلات..لذا وأقترحت عليهما الهيئة الطبية في المستشفى المذكور زرع بيضة في مبيض الزوجة والقيام بالتلقيح الصناعي، مع وجوب تحديد من تكون المرأة المانحة للبيضة، وهكذا ومن خلال قائمة طويلة وعريضة، اختارت زوجة بيضة من أم شقراء تنتمي الى اوربا الشرقية على امل التشابه في السيماء بين الام والوليد، وانتهت العملية بنجاح وأنجبت الزوجة طفلا ذكرا ولكن لسوء حظهما ان الطفل لم يكن اشقرا بل له شعر بني وعينان بنيتان، قفد غفل الجميع ان هنالك الكثير من العوامل الوراثية التي تلعب دورا كبيرا في هذا المجال...وفي كل الاحوال تم تقبل الامرعلى مضض وكبر الطفل الذي كان دائما عليلا وضعيفا...الامر الغريب ان الطفل لا يشبه اباه وكذلك لا يشبه الام المانحة، أيضا هنا تدخل العوامل الوراثية في الموضوع فقد يشبه الطفل والد الام المانحة او والدتها او جدتها...الخ... بغض النظرعن الامور الاخلاقية والقانونية التي منعت هذين الشخصين للقيام بذلك في بلدهما، ولكن اصرارهما في الحصول على الطفل كان اهم بالنسبة لهما من أي قوانين واخلاقيات رافضة .
في موقف آخر، تعرفت على استاذ بروفيسور في الثمانينات من عمره وكان يتمتع بصحة جيدة ويحاضر في الجامعة بل وان أدائه كان أفضل من أداء أي شاب في القسم، الامر الذي أعجبني في هذا الاستاذ انه وفي هذا العمر كان متفائلا ومحبا للحياة وله رؤية جميلة ومشرقة عنها، يأخذ كل الامور بفلسفة وتفكروامعان رائعين..علما انه كان يوم ما على الجبهات الامامية في معارك فيتنام مع الولايات المتحدة الامريكية كصحافي وكاتب، وكذلك في افغانستان لمتابعة حروبها ومن ثم الذهاب الى الخطوط الامامية في حرب بيشمركة كوردستان مع داعش...هذا الاستاذ أفترق منذ فترة قصيرة عن صديقته أو حبيبته التي كانت تشاركه نفس الاهتمامات..وقد روى لي ان قصة افتراقه عنها اوعن صديقاته الاخريات التي دخلن حياته ليست بقصص فراق حزينة ومؤلمة، فقد كان ومازال الاتصال دائم بينه وبينهن...وفي يوم من الايام، وكنت حاضرة اتصلت صديقته التي افترقت عنه قبل سنة، وكان يخاطبها بقوله ياقلبي . الامر الذي حيرني فالتفت. إلي وقال لا تتعجبي يا دكتورة ، فانا اخاطب جميعهن بهذا الاسلوب، وليس من الانصاف ان نقطع علاقتنا بمن أحببناهم في حياتنا لمدة سنوات بشكل قاس وفظ، وان كان كذلك فهذا يعني عدم فهمنا . فأما اننا اخطأنا في بداية علاقتنا أو في نهايتها...ولكن الاحترام والعاطفة تبقى خالدة اما الغريزة الحميمية فهي الى الزوال.
876 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع