بدري نوئيل يوسف
التصريحُ حسب المعجم ( إدلاء حكومة أَو رجل مسئول ببيان عن أَمر إداريٍّ أو سياسيّ أو اقتصادي ) ، والعديد من السادة النواب أو من في موقع المسئولية ، أو من يدعون بأنهم محلل سياسي استراتجي أو خبير اقتصادي ، الذين اصبح حلمهم وموعدهم اليومي الظهور على شاشات القنوات الفضائية ، من خلال ادلائهم بالتصريحات النارية والكوميدية أو المناظرات مع زميل له نفس المواصفات المهنية ،
هؤلاء يتناظرون في مختلف الاختصاصات من نظرية داروين الى النظرية النسبية والقضايا المعاصرة وكل العصور الزمنية ما قبل التاريخ ولهذا اليوم ، مقتنعين بما يقولون ، يفهمون بتنبؤات التنجيم وقراءة الابراج وعلم الفلك وحركة الكواكب ، وهم يحشرون انفسهم في كل صغيرة وكبيرة يدلون بتصريحات بعيدة الثقافة والمعرفة والدقة وأرائهم لا تقوم على رؤيا محسوبة ، ولا تلهم السامع أو القارئ بمفردات ما يقول ولا يقتنع بمدلول النص ، اراء غريبة عجيبة يطلقونها على الهواء مباشرة دون رقابة من جهة مسئولة تسأله على اختصاصه الاكاديمي وعن الجهة التي مكنته وخولته من ادلاء بآراء كلها لغو كلام يدور في متاهة حديثه حول فكرة بعيدة عن الواقع فهي ثرثرة الكلام مبالغة من دون جدوى ، عبء نفسي يزعج السامع والمشاهد ويسبب له ارتفاع الضغط والسكري والصداع .
يتحاور محللان استراتجيان ضيفا القناة مع مذيع الفضائية الذي نصب لهما كمين مملوء بالأسئلة المعقدة ويعرفهما صيد سهل للإعلام ، يطلقان تصريحات لا تعتمد على الخبرة والمعرفة والدارية ولا بالقضايا العلنية والسرية التي فوق الطاولة أو تحتها ، وهما جاهزان بالرد على الاسئلة السياسية والاقتصادية ويحللونها الى مركباتها الدقيقة والمعقدة ، ويربطونها مع العلاقات الدولية وعلاقة الجيران والى سابع جار ، ينتقده زميله الضيف ويرد عليه بالخطط العسكرية الحديثة وحركة الجيش وأنواع الاسلحة المستعلمة ومصادرها وكم طيارة طارت وعدد الصاروخ التي اطلقت وربما يعرف عدد اطلاقات البنادق والرمانات التي رموها على الاعداء ومبالغ العقود والدول المصدرة لهم السلاح ونوعه ، وعدد الجنود المتدربين وفي أي مكان يتدربون حتى يستفيد العدو من هذه المعلومات ، لكن الزميل الاخر يربط النقاش بتحرير المدن والقرى وتعميرها وفتح الجامعات وزراعة اشجار الزينة والزهور في الشوارع والساحات العامة وإقامة المعارض وإعادة ابنائها المهاجرين والنازحين بعد القضاء على الافات الزراعية وتوفير المياه الصالحة للشرب ، وفتح فتحات المجاري لتصريف مياه الامطار ، ويوعد المشاهدين عدم تكرار غرق الشوارع لأنهم رفعوا كل الاحجار الكبيرة من المجاري التي كان الاعداء المتربصين وضعوها ، انفعل الزميل الاخر وطلب من المذيع ان يأخذ دوره معقبا بان اسعار النفط مهما هبط سعرها فالميزانية تكفي للجميع و بها زيادة وسنقضي على ظاهرة البطالة وتفشي الامراض ولن يبقى أمي في البلد ونوزع الرواتب الشهرية بموعدها ويوعد الاطفال بأن مدارسهم ستكون افضل من الدول المتقدمة بعد القضاء على الفساد وإعادة المبالغ التي طارت او شفطت ، على شرط انابيب النفط تضخ مثلما يرغب المتحدث من الشمال والجنوب وتودع المبالغ في صندوق واحد والحكومة توزع ويسألون الإقليم تريد ارنب اخذ ارنب تريد غزال اخذ ارنب ، هَمهَم الزميل بأنه لن يأخذ وقته من الحوار وانتقد المذيع المتحيز للزميل وتدخل المذيع وسمح له بالحديث معقبا ، بأن هناك محافظات تأخذ ايرادات من محافظة اخرى وهذا لا يجوز نقطع من حلق الجياع ونعطي للشبعان ، وكأن سكان هذه المحافظات الشبعانة نزلوا من المريخ وليس من سكان الوطن ويضيف بانفعال لا يحق لهم تعين موظفيهم اكثر من النسبة المقررة لهم والبقية عليها أن تهاجر وتغرق في بحر ايجة لأنهم غرباء عن الوطن او يموتوا جوعا . سأل المذيع ماذا تقول يا استاذ باعتبارك خبير اقتصادي استراتيجي عن منظومة الكهرباء ، ابتسم صاحبنا ويبدو على وجهه الانزعاج قائلا بنبرة حادة :اعتقد يا مذيع القناة أنك سمعت تصريح سيادة الوزير السابق بأننا سنصدر الطاقة الكهربائية وعليه لا يحتاج ان تسأل هكذا سؤال لان جوابه معروف عندك سؤال اخر اهلا وسهلا ، تدخل المذيع مرة ثانية معتذرا ويسأل الزميل الثاني متى يعود المهاجرين والنازحين ، ضحك المحلل معقبا ماذا يريدون اذا عندهم خيمة تحميهم من الحر وتقيهم من البرد وكل يوم نوزع عليهم ثلاث وجبات من الطعام مع السجائر والحلويات اخي هؤلاء بطرانين عليهم ان يشكروا اللجان التي تخدمهم ولا يسمعوا ما تنشره الفضائيات . ثم سأله المذيع ماذا تقول عن الاصلاحات التي تبنتها الحكومة ، أجاب المحلل قائلا : سؤال جيد الاصلاحات عبارة عن مجموعة من الحُزَم ومفردها حُزْمة أي ما جُمع ورُبط من كلِّ شيء ، وبعد الاستجابة للنداءات اعتمدنا حزمة الاصلاحات الاولى ، وسوف نجفف منابع الارهاب وسوف نلاحق الفاسدين وسوف نعمل على إيقاف غسيل الاموال وسوف نجعل الفضائيين ارضيين والحبل على الجرار وبقية الحُزَم قادمة .
وقع المذيع في حيرة من امره وخجل واحمر وجهه ولا يتذكر أي سؤال تبقى له ليسأل المشاركان في المناظرة ، عليه قدم لهم الشكر على الحوار البناء الذي كان ينتظره ويشاهده الالاف من المواطنين .
أليس هذا الذي يذاع كل يوم تهريج سياسي قائم على فقدان الموضوعية وتشويش وإحداث اضطراب وفوضى بين ابناء الشعب لعدم دقة التصريحات التي تسبب مشاكل داخلية وخارجية ، والمهرجين السياسيين يسيئون للحكومة فى الظاهر ، وأصعب ما يؤخر العملية السياسية المصرحين لان معلوماتهم هشة وسطحية التحليلات وتفتقر المعلومة وإدلائهم ساذج سرعان ما ينكشف للمواطن ، وأصبح التهريج السياسي مُوجهه بشكل منهجي يقدم التهم والافتراء وتلفيق الاشاعات متهما الاخرين بالفساد واتهامهم بتلقي التمويل من دول عدوه أو صديقة ،ويظهر المحلل على شاشة الفضائية بمظهر المناضل الثوري الذي يستطيع أن يقدم لمنتقديه عشرات الاتهامات ووابلا من السباب والشتائم .
ألا يوجد في بلدنا شخصيات مهنية اكاديمية تستطيع ان تدلي بآرائها وتشخيصها للواقع مستندة على وقائع علمية في تناول الاحداث ( ونادرا ما نجد محلل او خبير استراتجي ، اقتصادي ، سياسي في العالم المتطور ان يتحدث فهناك من له علاقة بهذه التصريحات هم المخولون ) ؟ .
1542 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع