مقتطف من دراسة واسعة في موضوع "التفكير بالعقل في العقل"من لغة الفكر إلى لغة العيون
علاء الدين الأعرجي
باحث/مفكر عربي عراقي مقيم في نيويورك
" لا شك أن الوجود الذي نتأكد منه أكثر ما نتأكد، هو وجودنا نحن. إننا ندركه من الداخل و بعمق"
هنري برجسون
" أنا أفكر، إذاً فأنا موجود"
رَينية ديكارت
"إن الإنسان أشكل عليه الإنسان"
أبو حيان التوحيدي
الإنسان باعتباره كائناً مفكراً، يُعتبر أشد الموضوعات غموضاً وربما تناقضاً سواء بالنسبة للعلم أو الفلسفة، ويبدو أن العلم عجز عن توضيح مكان هذا الكائن في الوجود. كما لا تزال الفلسفة تتخبط في هذا الشأن فإننا نقف أحيانا حائرين أمام ظاهرة " الفكر "التي يتميز بها الإنسان، لا باعتبارها ظاهرة متفردة لدى هذا الكائن حصراً، وليس بسبب تعقدها و إفلاتها في الغالب من الخضوع للفحص و التجربة فحسب، بل لأنها قد تتناقض أحياناً، وبشكل غاية في الإثارة مع منطق الحياة، أو بعبارة أدق، مع منطق " التطورييـن " و تفسيرهم المنبثق عن مقولة " تنازع البقاء و بقاء الأصلح " أو بقاء الأكثر ملاءمة للحياة وانسجاماً مع ظروفها ومقتضياتها، بالتفصيل الوارد فيما سيأتي من دراسة مسهبة منشورة، نقتطف منها هذا الجزء فقط. ونكتفي اليوم بظاهرة انعكاس الفكر على ذاته.
ظاهرة انعكاس الفكر
إمكانيّة الفكر البشريّ على الانعكاس على ذاته، تعتبر إمكانية متفردة، أي ليس لها مثيل في بقية الكائنات المعروفة. و معنى " الانعكاس" أنّ الإنسان حين يفكّر بشيء، يدرك أنـّه يفكر بهذا الشيء. والأعمق من ذلك، أنه حينما يفكر بذاته، (أو يَـتـَعَقَلُ عقلَه) يتمكن في الوقت عينه أن يدرك أنه يفكر بذاته... فهو اذن " يدري ويدري انه يدري " ، كما ينسب إلى الإمام عليّ. فأنت حينما تفكر في حلّ مسألة ما، قد تعود إلى ذاتك، بين الحين والآخر، لتتأمّل كيف أنّك تحاول تناول هذه المسألة، وكيف يحدث الحوار الداخليّ في العقل، بين مختلف الأفكار التي تتفاعل في الذهن، لتخرج بنتيجة أو بأخرى.
ليس هذا فحسب، بل وأنتَ تقرأ هذه الفقرة، وتحاول أن تتفهم معانيها، تستطيع أن تتأمّل ذاتك في نفس الوقت، وتدرك أنك تتأمّل ذاتك، أي يمكنك أن تُقَلّبَ عقلك في كيفيّة فهمه لهذه الفكرة، وكيف ينظر في مدى معقوليّتها أو عدم معقوليتها. أي أنك تنظر إلى المسألة من موقعين، أحدهما أنك تفكر بشيء موضوعي، أي خارج عنك وحادث في العالم ككيان منفصل قائم بذاته، وثانيهما أنك تدرك أنك تفكر بهذه المسألة الموضوعيّة وتُدرك أنك قد أدركتها.
فالتفكير بها لا يقتصر على كونها مسألة موضوعية فقط، بل كمسألة ذاتية أيضاً. فموضوعيتها متأتيةٌ من كونِها ذات علاقة وثيقة بالعالم الخارجيّ، وذاتيتها متأتية من كونها ترتبط بوثوقٍ بذاتك أنت، و بتفكيرك بنفس تلك المسألة عينِها. وهذا جزءٌ ممّا يُسمى" التفكير بالعقل في العقل"، أو رُبما نطلق عليه تعبير "الاستبطان". وهو ما يعتبر أسمى ما يصل إليه العقل البشريّ الفاعل.
اللغة والفكر
مع ذلك، أعتذر من سوء التعبير أحياناً. ذلك لأنني ألاحظ أن اللغة بوجه عامّ، قد لا تستطيع مواكبة الفِكر، لأنني أرى، خلافاً لعدد من الباحثين، أن الفِكر أوسع من اللغة وأدق وأرقى، فهو مُنْتَجٌ طبيعيٌّ، بينما نرى أن اللغةَ مُنتَجٌ اجتماعيٌّ رمزيٌّ، قد يعجز عن التعبير الدقيق عن سوانح الفكر ودقائقه وتجلّياته. لذلك ابتكر "العقل الفاعل" للإنسان، لغاتٍ أخرى تُكَمِّل اللغة النثرية العادية، المحكيّة أو المكتوبة، منها الشِعر والرسم والموسيقى والنحت ولغة العيون.
نعم، لغة العيون، التي تعبر عمّا يعجز عنه أي لسان، كما أنها لغة عالمية، مفهومة لدى جميع الناس تقريباً.
فأنا أقول مثلاً:
نظرةٌ أدمتْ فؤادي، تتغنى بحديثٍ وعطورْ
وفتافيتُ تثورْ. والتقينا، والتقتْ أرواحنا بين يدينا...
ويقول شوقي:
نظرةٌ فابتسامةٌ فسلامٌ فكلامٌ فموعدٌ فلقاءُ
كما يقول:
وتعطلتْ لُغةُ الكلام ِ، وخاطبتْ عيْـنَيَّ في لُغةِ الهوى عَيْـنَـاكِ ....
1364 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع