أ.د. محمد الدعمي
” استثمرت الإمبراطورية العثمانية ما كان يسمى بـ”العصبة الإسلامية”، أداة لتعبئة الشعوب الإسلامية لإنقاذ “دولة الخلافة” العثمانية التي كانت بدرجة من الوهن والشيخوخة أنها استحقت لقب “الرجل المريض” the sick man الذي أطلقته الإمبراطوريات الأوروبية عليها، برغم الدور الإنبعاثي الذي لعبه الضباط العثمانيون الأحداث …””
ـــــــــــــــــــــــــ
بقي منظور الحكومات التركية المتعاقبة التي توالت على الحكم الجمهوري بعد سقوط الدولة العثمانية، لدولة العراق الوليدة، منظور مستوحى من رواسب الماضي الإمبراطوري العثماني. ينطبق هذا المنظور المختل بشكل خاص على حكومة أردوغان ورئيس وزرائه “الإسلامية” القائمة اليوم بتركيا. ويبدو للمراقب الحذق أن هذه الحكومة قد حافظت على حلم انبعاثي وسيط تحدوه آمال عودة ممكنة الى النظام العثماني السابق. قبل انهيارها، إستثمرت الإمبراطورية العثمانية ما كان يسمى بـ”العصبة الإسلامية”، أداة لتعبئة الشعوب الإسلامية لإنقاذ “دولة الخلافة” العثمانية التي كانت بدرجة من الوهن والشيخوخة أنها استحقت لقب “الرجل المريض” the sick man الذي أطلقته الإمبراطوريات الأوروبية عليها، برغم الدور الانبعاثي الذي لعبه الضباط العثمانيون الأحداث من أجل إطلاق وتكريس حملة التحديث التي عرفت بـ”التنظيمات” tanzimat لإنقاذ الدولة من الانهيار.
لذا، أرسيت الفكرة التركية الأساس حول العراق على خلل مفاده أن العراق القائم اليوم قد تشكل، أصلاً، من دمج ثلاث ولايات عثمانية سابقاً، وهي: (1) الموصل، (2) بغداد، و(3) البصرة. كانت هذه الولايات الثلاث، إبان العصر العثماني، تحكم بسلطة ثلاثة ولاة أتراك على نحو شمولي، ولاة يستقون سلطتهم المطلقة من شمولية سلطات “الباب العالي”، الذي بدوره يستمد سلطته غير القابلة للنقاش، من “الخليفة” القابع في اسطنبول، عاصمة الدولة العثمانية المهيبة.
إن أصل المفهوم التركي المسبق أعلاه هو شكوك تركية حول فكرة وجود دولة عراقية متحدة قابلة للحياة، خاصة وأن عائدية الجزء الشمالي من العراق، أي “ولاية الموصل”، بقيت مثاراً للجدل والنزاع بين تركيا، الجمهورية الحديثة، وبين الدولة العراقية الوليدة. لم يحسم هذا النزاع على الموصل بين الدولتين الجارتين إلا بعد تنظيم إستفتاء للسكان من قبل “عصبة الأمم المتحدة” آنذاك، حيث جاءت نتائجه لصالح ضم الموصل الى العراق، علماً بأن هذا للإستفتاء لم يكن ليحدث لولا ضغوط بريطانيا وتعاون المنتصرين في الحرب العالمية الأولى من أجل المزيد من إجراءات لجم تركيا المهزومة في الحرب.
على الرغم من إغلاق فصل الصراع العراقي التركي على عائدية الموصل من تاريخ العراق، حافظت ولاية الموصل على أهميتها بالنسبة للجمهورية التركية التي تفتقر للنفط، خاصة على سنوات الاستكشاف والإنتاج من حقول “بابا كركر” وكركوك التي بقيت تجهز العراق بأهم وارداته. وللمرء أن يلاحظ، في هذا السياق، أن أهمية إقليم الموصل قفزت الى أعلى الأولويات بسرعة متناهية مع تصاعد وتيرة التمرد الكردي في الدولتين، خاصة بعدما راحت كردستان العراق تتيح ملجأً آمناً لمقاتلي حزب العمال الكردي PKK الثائرين ضد الحكومة التركية؛ والعكس صحيح، حيث راح مقاتلو “البيشمركة” من كرد العراق، خاصة على سنوات نظام البعث في العراق، إذ راح الكرد يستثمرون حماية الحدود الدولية التركية التي لم تكن تسمح للقوات العراقية باجتيازها كي تطارد “البيشمركة”. وإذا ما استنفدت حرب العصابات ضد المتمردين الكرد الحكومتين التركية والعراقية لعقود من السنين، فانهما سرعان ما اتفقتا، خفية، على صيغة تعاونية تسمح للجيشين، العراقي والتركي، بعبور الحدود بشكل محدود من آن لآخر، مبررين هذه الخروقات بعمليات مطاردة المتمردين الكرد الذين كانوا يستثمرون قدرتهم على الحركة السريعة لتنفيذ ضربات مسلحة موجعة، نوع “إضرب وإهرب” بذكاء ملحوظ، الأمر الذي ابقى على جذوة التمرد الكردي متقدة لعقود. وبعد أن تأكد المقاتلون الكرد الأشداء من عدم إمكانية أي جيش تقليدي ضبط المثلث الجبلي الوعر التركي/العراقي/الإيراني، الكائن بين حدود هذه الدول الثلاث، عمدوا الى استغلاله تكتيكياً الى أقصى حد ممكن في سبيل إدامة وتقوية هجمات حرب العصابات على المواقع العسكرية الحكومية المكلفة بضبط المنطقة الجبلية وبلجم الحركات الكردية المسلحة.
ولكن زيادة على اعتباري النفط والتمرد الكردي الرئيسين في تشكيل سياسة تركيا تجاه العراق، يمكن إضافة اعتبارات أخرى على مسببات تفضيل تركيا لعراق لا مركزي معزول الأقاليم، ومن أهم هذه الإعتبارات تنبغي الإشارة الى الأقلية الإثنية التركمانية التي تقطن غالبيتها إقليم كركوك الغني بالنفط، علماً بأن هذه الأقلية يمكن أن تطالب بالحماية التركية في أي وقت تشعر فيه بخطر وجودي يهددها خاصة في سياق تنافسها مع الكرد على إقليم كركوك الغني بالنفط.
لايبدو عبء تراث تركيا العثمانية لينته عند حد، مع إشارة خاصة الى دوافعه الكامنة التي تضرب بجذورها في عمق التنافس الإيراني/التركي/ القديم على العراق. بينما قدم الترك أنفسهم حماة للعراقيين السنة ولمراقدهم المقدسة، قابل الإيرانيون ذلك بإداعاءت مماثلة، بل وأكثر إصراراً على ذات الأفكار، مع إشارة خاصة الى الغالبية السكانية الشيعية في العراق. وتأسيساً على ماسبق التطرق اليه من اعتبارات، ليس من صالح الحكومات التركية المتعاقبة عامة الاعتراض على عزل أقاليم العراق عن بعضها البعض مبدئياً، خاصة وأن خطوة من هذا القبيل يمكن أن تجهز أنقرة بمدخل مباشر ومؤثر الى الإقليم الغني بالنفط أعلاه، مستذكرة التمرد الكردي المتواصل ووجود الأقلية التركمانية في “قلب الظلام”، عبر شمال العراق. أما الآن، فتضطلع الحكومة التركية بالضغط على العراق عبر عدة وسائل، ومنها تحديد و”حصحصة” كميات المياه الجارية الى العراق من نهري دجلة والفرات وروافدهما، بضمن خطة استراتيجية بعيدة المدى ترنو، في نهاية المطاف، الى تحقيق حلم مقايضة الماء بالنفط، وحسب صيغة “برميل ماء مقابل برميل نفط”.
1089 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع