أميرة الوصيف
يستوى الأصلع جالساً في مواجهة تلفازه كتمثال , ملامحه تَتدلى من وجهه بصورة تُثير السخرية ؛ يُصدِر بفمه أصواتاً حمقاء , يفعلها خصيصاً كلما عانقت عيناه هيئة هذا المهرج السياسي الذى يهرول أسبوعياً للقاء التليفزيونى مُصطَحباً كرشه الذى يهتز فى غرابه كلما تَفوه المذيع بكلمة "السياسة ".
يَمُط الرجل شفتيه فى لامبالاه , ويفرك بيده جوربه صاحب الثُقب الأكثر اتساعاً , والذى يؤهل صاحبه لمُنافسة ثقب الأوزون !
ينظر ذاهلاً الى التلفاز ؛ تاركاً يده اليُمنى تسبح فى تكاسل على أريكته غير المُرَتبة كعادتها فتصطدم بمفكرة ديون , ونصف شطيرة , ونظارة ومشط عاجي .
ينظر الى المشط شذراً , فما حاجته اليه هو لا يدري ؟!
وبسرعة خاطفة ؛ يقبض بيديه النحيلتين على نظارته , ويلتقطها في حميمية كهوية أو أكثر .
يعاود مُراقبته دافناً بصره في جاكتة السياسي ؛ الذى يرقص جسده فى آداء اعتيادي أقرب الى أداء البهلوانات ذات الأكمام المُزَركشة والألوان الأكثر فجاجة .
يُلقي نظرة على وجه السياسي , وأخرى على كرشه ثم يُنصِت الى حروفه الرنانة , فيعود قليلاً للخلف فى وضع هجوم , وكأنه يستعد لركلة قوية , ثم يرمق الرجل مرة أخرى ؛ مُحققاً معادلته فى المشاهدة , فنظرة لوجه "السياسي " , وأخرى لكرشه حفاظاً على توازن المشهد .
تخترق كلمات "السياسة – الأحزاب-المصلحة العامة" التلفاز وسمعه , وتنفذ لتصل الى عقله فيلفظها , فلا تجد لها خلاص سوى القلب , فيحكم اغلاق بابه جيداً في وجهها , و تمكث على أنف الأصلع في احتلال , ويمتعض ويتذمر ويضيق صدره ويُصدر أصواتاً حمقاء وكلمات هجاء , وتسقط كورقة شكوى باهتة دهستها أقدام المارة حتى غابت عنها قطرات الحبر وباتت مُبهَمة .
تتحرك شفتا "السياسي" كعادة مَن يُقدمون على القاء قنبلة صوتية خلال حديثهم قائلاً وأسنانه الإصطناعية تظهر كاملة كما عادة أبطال اعلانات "معجون الأسنان" :
" علينا أن نرى أنفسنا في المرآة .. هنا تحديداً تَكمُن القضية ياساده " .
بَدَت كلماته كجريمة تركت كامل أثرها على وجه الرجل الأصلع , فإذا به يُطبِق شفتيه في غيظ ويقف مُبادراً بإتجاه مرآته المُعَلقة خلف التلفاز مُلقياً بملامحه النصف نائمة في صفحتها .
الرجل ينظر لوجهه في بلاده , فهو لا يرى شيئاً يستحق الإمعان , فهاهو أنفه الكبير يفترش صفحة وجهه , وشفته الغليظة كما هي مُطبَقة بالإجبار , وعيناه تائهتان في زحام ملامحه , ويلوحان من بعيد من خلف نظارته وهاهما حاجباه المُقَطبان منذ ميلادي , صِدقاً لا يوجد شيئاً جديداً و لا مُبتَكراً !
يتحدث الى نفسه على طريقة خبراء التنمية البشرية بصوت ينم عن ثقة بالنفس : أعتدت أن أرى هذا الوجه طيلة أربعين عاماً اذاً كيف تكمن هنا القضية ؟ وبالأحرى أية قضية ؟؟
يُعيده سمعه لصوت "تصفيق حاد" صادر عن التلفاز الى جلسته المُدهشة بالنسبة اليه , فهو على وفاء طويل بكرسيه الخشبي هذا , وعلى انصات ثابت لتلك النصائح التى تخرج من تلفازه مُتَسلقة هيئات آدمية ذات وجه بلاستيكى يلمع في الظلام كوجوه الدُمَى وهو على صبر جم من هذا الكائن السياسي الذى يُشبه المثلجات من حيث برودتها .
ورغم تلك الجلبة المُتَدلية من العقول الخَربة , الا أنه على وفاء بالغد
عَله يأتى اليوم الذي لا يتبقى فيه شىء من العالم سوى "حقيقته "
ربما آن ذاك يستطيع أن يرى وجهه بجلاء , وربما حينها يشتري جورباً جديداً , ويتمشى الدفء في أوصاله ؛ هامساً لقدميه المُكَرمشتين بفعل البرودة أنه هنا .. هنا تحديداً تكمن القضية !
993 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع