بدري نوئيل يوسف ـ السويد
أجابت المُدرسة باستهزاء وقالت :
عَلمينا يا عبقرية السياسة ، وحلاله مشاكل المجتمع ، هنا في العراق عوائل تعيش في ظروف إنسانية مؤلمة بأطفالها وشيوخها ونسائها على المزابل ، عوائل النفايات وأكوام القمامة وأطفال مشردون ، ملابسهم رثة ووسخة ، وجوههم مسودة مفحمة ايديهم متسخة من اثار الاوساخ التي يبحثون بينها ، تحمل اجسامهم الجراثيم والقاذورات يستنشقون الغازات التي تصدر من حرق الاوساخ وأكياس النايلون السوداء ، يأكلون ما يقع بين ايدهم من بعض المأكولات المتعفنة واللحوم المتفسخة والخبز المتعفن التي يجمعونها من المزابل ، هم حفاة يدوسون على اكوام القمامة للبحث عن ما يحتاجونه ، اقدامهم تحمل طبقات من الاوساخ ، سكنهم اربع جدران من صفائح تنك الزيوت والدهون الفارغة وبعض الاخشاب وقطع الطابوق المستعمل ، سقفهم من قطع النايلون والصفائح البلاستكية القديمة ، يحمون اجسادهم من برد الشتاء وحر الصيف ، يفرشون الارض بقطع من الكارتون او ما يعثرون عليه من قطع اسفنج تالف او اقمشة قديمة بالية ينامون فوقها ، بدون حمامات و مرافق صحية ، لا ماء صالح للشرب ولا كهرباء . أليس هذا هو الفقر ؟ اسمعي يا شابة ، الفقر موجود منذ الازل وربع الشعب العراقي تحت خط الفقر ، وأصبح الفقر ظاهرة اجتماعية ومشكلة عالمية لا يخلو منه المجتمع .
أجابت الطالبة بعفوية وحماس قائلة : استاذة كل ما قلتيه موجود ولا فيه نقاش ، لان عدم التفات المسئولين لهذه الشريحة من الفقراء وتقديم لهم ما يحتاجونه من ضروريات الحياة وحمايتهم من الجهل والأمية وتخفيف عنهم الامراض الاجتماعية والصحية وانتشالهم من الظروف المزرية التي يعيشونها ، الدولة لا تقدم الخدمات لهم وتساهم في القضاء على الفقر ، هل تتابعين يا استاذة الفضائيات التي تنقل معاناة المواطنين ، الكل يقول صعوبة الحصول على عمل والتعين في الدوائر الحكومية ، البطالة في البلد غير طبيعية مئات من الخرجين عاطلين والأسعار مرتفعة ودخل الفرد واطئ ، وآخرين يقولون لم نحصل على المال لشراء الطعام ومراجعة الطبيب وشراء الدواء . هل هذا ذنب الفقير ؟ أم ورثوه من اجدادهم ؟ هذا ليس ذنبهم وإنما الدولة التي لا تقدم لهم المساعدة ولا تحل مشكلتهم رغم امكانياتها النفطية الكبيرة،ويزداد عدد الفقراء طالما الفساد موجود .
ردت احدى المدرسات الواقفة بقربنا قائلة : تعليقاً على العوائل الفقيرة التي تعيش في المزابل ، هؤلاء شيدوا لهم اكواخ وخيام صغيرة قرب المزابل ، وتكونت مجموعات اعتمدت على القمامة باتوا يتعايشون مع الأوساخ والبيئة الملوثة من كثرة الغازات والسموم ، فهم مصابون بشتى الامراض التنفسية والجلدية ، والامية منتشرة بينهم لعدم إرسال الطلاب الى المدارس ، هؤلاء الاطفال تعلموا على التدخين والمخدرات والاعتداء الجنسي والجسدي ، وبدأت تنمو فيهم روح الجريمة . وكذلك هناك الالاف من الاطفال ومنهم صبايا مراهقات يتسكعون في الشوارع وعند اشارات المرور يبيعون المناديل الورقية او العلكة .
ردت المُدرسة بهدوء قائلة : لو فرضنا أن الفساد معدوم ، هل سيختفي الفقر والفقراء من البلد. أبداً لن يختفي الفقر ، والفقير يرث الفقر من والديه .
قال الشيخ : الفقر صُنع الانسان ويمكن التخلص منه والتغلب عليه اذا ما اتخذت الحكومة الخطوات اللازمة لذلك ، ومفهوم الفساد هنا لا يعني الشر وإنما سوء استعمال الوظيفة من اجل تحقيق مكاسب شخصية على حساب الاخرين ، وهذه المكاسب ليست بالضرورة للموظف نفسه بل تكون لجهة لها علاقة بالموظف أو الحزب المنتمي له ، ومن سلوكيات الموظف المتولي منصب حصوله على منافع وأموال كالرشوة مقابل تنفيذ مخالفة للأصول ، أو تنفيذ عمل لصالح حزب مرتبط به ، وكذلك الواسطة بتفضيل شخص على اخر دون الحد المطلوب من الكفاءة لتعين شخص غير كفؤ ، و نهب المال العام والتصرف به من غير حق ، وهناك من يحصل على المال من جهة سياسية او دولية مقابل تنفيذ عمل ، ونزوح ثلاثة مليون عراقي بسبب القتال الدائر بين القوات الحكومية والمجاميع المسلحة ، وتوقف المئات من المشاريع قيد الانشاء مع عدد غير قليل من المنشآت الصناعية الكبيرة المملوكة للدولة كونها غير منتجة وأصبحت عبء على الموازنة العامة . هذه الحالات تنعكس سلبيا وتزيد من ازمة الفقر والبطالة .
قالت المُدرسة بغبطة وثقة : انتم وضعتم الفساد بأنواعه يسبب الفقر في العراق وانتشاره ، ولكن هناك اسباب اخرى ساعدت على انتشار الفقر ، على سبيل المثال نحن التدريسيين نعاني من قلة الراتب وعدم كفايته لسد حاجة الاسرة ، ولا يوجد مقارنة بين رواتبنا والرواتب الضخمة التي يتمتع بها النواب البرلمانيون ومصاريف حمايتهم الشخصية ، ورواتب النواب وحمايتهم والمسئولين الكبار والمصاريف العسكرية تأخذ جزء من الميزانية العراقية ، وانهيار الصناعة الوطنية نتيجة استيراد البضائع الاجنبية وكذلك الزراعية .
أجابت الطالبة بجدية وثقة : الكل يحلم بالسعادة والمناخ النظيف الخالي من الغازات السامة والسكن الجيد وأسواق حديثة وبيوت صحية فيها الماء الصافي الصالح للشرب والكهرباء ، مع وجود مستشفيات حديثة ومدراس وطرق وحدائق ، اليس هذا حلم العراقيين ؟ والعراق من البلدان الغنية اين التعليم المجاني والأعمار والبناء والخدمات الصحية ، وإذا كان المسئولين يعتبرون انفسهم مسئولين عن الشعب فعلى الحكومة ان تنظر اليهم .
قالت المعلمة بهدوء : أنا اؤيد كلامكم للفساد دور في تعميق مظاهر الفقر في العراق ، وانتشار مظاهر الفساد في البلد ادى الى زيادة حالات الفقر ، وقد انعدمت ظاهرة التكافؤ الاجتماعي والاقتصادي وتراجعت العدالة الاجتماعية التي ادت الى تدني الحياة المعيشية في المجتمع وأصبحت فئة قليلة غنية على حساب الشعب ، ولكن مازلت اقول أن الفقر موجود من القدم .
تقربت المُدرسة من الطالبة وقبلت جبين حفيدتي قائلة لها : أنا فخورة بطالبة مثقفة ، متفوقة وهذا التفوق نتيجة متابعة الدروس والقراءة الخارجية اتمنى لك ان تصبحين اكثر تميزا ونجاحا .
اجابت حفيدتي : شكرا استاذة على هذا الوصف . هل اقدر أن ارجع للصف ؟
ابتسمت المُدرسة وقالت : اكتبي الانشاء عن الفقر والفقراء . وإذا اقتنعت أن الفقر موجود ستدخلين الصف .
ضحك الجميع وودعت المدرسات متمنين للعراق ان ينهض ويصطف مع الدول الغنية .
2115 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع