بقلم الدكتور هيثم الشيباني
لايعرف عمر العظماء بعمرهم البايولوجي , بل بالبصمات التي يتركونها في عمر البشرية , هو ذا بهنام أبو الصوف.
وكأنه يغادر الى محطة أخرى من عالمه ، ذهب بهنام أبو الصوف عملاق تأريخ حضارة وادي الرافدين والتأريخ الانساني الى عالم آخر . كان قد وافق على النسخة النهائية من كتابه الموسوم ( ذكريات السنين ) ودفع الى الناشر قبل رحيله بأربعة أيام كامل ما عليه من استحقاق مالي وكرر عليه بشكل عجيب أن يسامحه ان كان قد أخطأ بحقه (حسب ما قال الناشرنفسه ) ، وهذا تواضع الكبار ،
فهنيئا لك أيها العملاق , فقد كنت شامخا في حياتك وهنيئا لك وأنت شامخ في رحيلك .كان على الوطن أن لا يفرط بكنز مثلك ، فأنت لا تتكرر وان مكانك الصحيح هو مراكز للبحوث ومستودعات للفكر الانساني ، وتبا لمفهوم التقاعد والسن التقاعدية عندنا، كان من الأجدر أن تتظافر مع انجازات العالم الجليل علوم التأريخ والاجتماع والوراثة البشرية ، اذ أن علم الآثار هو دراسة الثقافة الإنسانية المادية، بما في ذلك التحف (أقدم قطع من ثقافة الإنسان)، وقطع من المتاحف والقمامة الحديثة وأن يعمل علماء الآثار بقرب علماء الأنثروبولوجيا البيولوجية، ومؤرخي الفن، والمختبرات الفيزيائية، والمتاحف.والآثاريون متهمون بالحفاظ على نتائج حفرياتهم، التي تستقر في النهاية داخل المتاحف ، لكن السؤال هو كيف يكون الحفاظ عليها اذن؟ وقد شاهدنا ما حصل للمتحف العراقي وكل آثر العراق بعد احتلال عام 2003 ، فعادة يرتبط علماء الآثار بالحفريات، أو الحفر في طبقات المواقع القديمة .
تسعى الأنثروبولوجيا اللغوية (وتسمى أيضا اللسانيات الأنثروبولوجية) إلى فهم عمليات الاتصالات البشرية، اللفظية وغير اللفظية، والتنوع في اللغة عبر الزمان والمكان، والاستخدام الاجتماعي لللغة، والعلاقة بين اللغة والثقافة .
لكن الراحل الكبير بهنام أبو الصوف خاض المجاهيل وفسر العديد من طلاسمها ، وغاص في أعماق التأريخ البشري وخرج يحفر الصخور بيده ونفض التراب عن الحصى وأزاح بفرشاته العبقريه تراب السنين ، ووقف مثل القائد أمام منضدة الرمل فبدلا من وصف ساحة الأحداث خلال مرحلة قصيرة من الزمن ، صار يعطي ايضاحا مفصلا عن حركة التأريخ وتناسل الأقوام من جيل الى جيل بل من عصر الى عصر، ويربطها مع السلالات التي سكنت وادي الرافدين ، حتى عصرنا الحاضر ، ويثبت بمهارة فائقة وبرهان علمي ما غاب عن الكثيرين عن أسباب الاختلاف في اللون والجسم وشكل الرأس وغيره من التفاصيل وكذلك لغات الأقوام ، بل وحتى الأسباب التي أدت الى ظواهر مجتمعية تتكامل مع نظريات علماء الاجتماع الخالدين وعلى رأسهم العالم الراحل علي الوردي . وعلى الرغم من كون علم الوراثة يتميز بمساحة زمنية قصيرة مقارنة بعلم الآثار الا أن بعض الظواهر الوراثية يمكن أن تستنبط من خلال هذا العلم ، حيث يهتم علم الوراثة البشرية بدراسة آليات انتقال الصفات الوراثية عند الإنسان(خصوصا تلك المرتبطة بأمراض وراثية) إلا أنه يواجه عدة صعوبات من بينها :
عدم إخضاع الإنسان لتزاوجات مسيطر عليها .
صعوبة تطبيق القوانين الاحصائية على جيل بشري
صعوبة التأكد من بعض الصفات الوراثية نظرا لوجود أمراض مرتبطة بتشوهات خلقية أثناء الحمل أو الولادة .
اخفاء بعض العائلات للأمراض الوراثية.
وداعا أيها الكبير الذي تلخصت فيه أساطير نينوى وآشور وأكد وكلكامش وأور وكل العراق
لكن لا فرق عند الموت .
سواء كان في الغربة أم بكاتم للصوت .
ويصرخ السؤال الأهم . لماذا ينزف الوطن نخبه الواحد تلو الآخر؟ فيخطفهه الموت في لحظات في حين يطول بناؤها دهرا من الزمن ؟ انه قدر الأمة بلا شك وقضاء الله جل وعلا،ويطرق على الرؤوس كي تستفيق . تتطلب قيم الوفاء لهذا الكبير تخليده باطلاق اسمه على واحدة من ساحات بغداد على الأقل .
لقد رحل عاشق أرض الوطن الذي تدفق الحب في شرايين جسمه، بحثا عن تاريخ أجداده القدامى وعن رموزهم التي أضحت أطيافا في التلول والجسور بحثا عن المجهول وهكذا كان الفقيد بهنام أبو الصوف يرحل عميقا بين تراب العراق المقدس , فوضع الفكر العالمي وأوصله إلى علامات ودلائل مشرقة لأهل العراق القدامى , بل البشرية جمعاء فصار قناصا لكنوز التاريخ المدفون في باطن الأرض الغامض .
1217 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع