ياسين احمد الحديدي
عندما تذكر مدينة كركوك لابد من الوقوف ولو بشكل وجيز لتاريخ المدينة الموغل في العمـــــق التاريخي لبلاد الرافدين مهد الحضارات ولابد من ذكر ظهور النار الأزلية عام/550 قبل الميلاد حيث ابتداء تاريخ كركوك في بابا كركر الذي لازال شعاع هذه النار عند الغروب وفي الليالــــي المثقلة بالسحب الكثيفة يثير البهجة والحبور في النفس ومصدر من مصادر الهام الشعراء بقصائد جميلة تتغنى وتحيك منها قصص الغزل والحب والجمال والعشق حتى الموت لهذه المدينة .
كركوك جميلة العينين الساحرة تغفو وتصحو على نهر بسيط يخترقها من الشمال إلى الجنوب يحمل في خريره الحب وينشره على أهله ورسالة تحمل المودة والإخاء من الجبال إلى أهلها وعلى امتداد مجراه إلى القرى والأرياف التي تنتظره بشوق لأنه يعني لها العطاء والخير وموسم زراعي مبارك انه نهر السلام ومن لا يعرفه ومن لم يعشقه ويجتازه خائضا او على جسره الحجري من الصوب الكبير الى الصوب الصغير وبالعكس فلا ارث له ولا ذكريات ، كركوك المدينة الرابط بين الشمال والوسط و الجنوب ، كركوك الذي يحمل مناخها كل مناخات العراق الثلوج والبرد والحر والامطار وأرضها موزعة بين الجبل والوادي والسهل هذه المدينة الخالدة تحتضن بين يديها اطياف المجتمع الكركوكي وترضعهم الحب والتآخي والمودة متباهية بهم لوفائهم وعشقهم لها حتى الجنون ، لها ابناء أوفوا بالعهد عهد الاخوة والسلام والمحبة وهكذا شان المرأة الطاهرة التي أنجبت ونعم الإنجاب ، كركوك رنين حبها وحنانها نقطة انجذاب للمسافر والمغترب والمغادر لها ، كركوك المدينة الهادئة والوديعة يحمل ابنائها صفاء النفس والقلب ومهما ذهب مداد القلم في وصفها فهو قطرة في بحر وهنا لابد من ذكر قلعتها الشامخة التي تحمل العز والفخر والتواضع . القلعة الرمز والتاريخ والشموخ على محيطها انتشرت أحيائها السكنية القديمة وامتدت شمالا وجنوبا وشرقا وغربا سكنها الأكراد والتركمان والعرب و الكلدانيون والأشوريون وكل يحمل في يده غصن الزيتون ، بعيدا عن المركز الرئيسي للمدينة في حينها وعلى الجناب الغربي في اتجاه الجنوب اتخذت مجموعة من العوائل النازحة بيوتات متناثرة لا يتجاوز عددها أكثر من ثلاثون دارا في المنطقة المحيطة لبناية المحافظة حاليا في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وهذه العوائل ما هي إلا فخذ من أفخاذ عشيرة الحديديين العربية من السادة الحسينين ويعود نسبهم إلى الإمام موسى الكاظم بن السيد الإمام جعفر الصادق بن السيد محمد الباقر بن السيد الإمام زين العابدين بن السيد الإمام الحسين شهيد كربلاء بن الامام علي بن ابي طالب (كرم الله وجهه ورضي الله عنهم جميعا ) كما ورد في صحاح الأخبار وحضان المراجع في نسب السادة الفاطميين الأخبار لعبد الله المبارك ص 103 وقلادة الجواهر للمؤلف ابو الهدى العبادي ص 267 والروض البسام ص 216 وفي العشائر العراقية للأستاذ عباس العزاوي والعشائر العراقية للمؤرخ عبد عون الروضان ، ويرجع تسمية الحديديين إلى جدهم الشيخ الورع محمد نور الدين الملقب عجان الحديد الدفيين في حديثة وموطن العشيرة في العراق حاليا مدينة الموصل ويسكنون ما بين دجلة من تلعفر الى حمام العليل وعلى يسار دجلة بين الزاب وسهل باشايا من قرى ناحية الحمدانية وهذه العشيرة تمتهن مهنة الزراعة ورعي الاغنام لها ولتجار الموصل سابقا وتوطن قسم منهم في مركز مدينة الموصل بالاضافة الى تواجدهم في القرى الكثيرة المنتشرة في إرجاء المحافظة ، وبسبب ظروف عدم توفر الاستقرار في بداية القرن التاسع عشر نتيجة لمنازعات بين عشائر شمر والعبيد واللذين كانو ايض طرف فيها وخاصة في بداية عام 1233 هـ / 1812 م المذكور في إحدى الوثائق العثمانية في عهد الوالي داود باشا حيث يذكر المعركة التي جرت بين شمر والعبيد والحديديين وقتل فيها أعداد كبيرة من الأطراف المتنازعة وستة من أهالي تلعفر مما اضطر قسم من أفخاذ هذه العشيرة الرحيل إلى مناطق مختلفة من العراق بغداد ـ ديالى ـ الناصرية ـ الحلة ـ كركوك وبعضهم إلى الشام حسب ماورد ذلك في كتاب عشائر الشام الجزء الثاني .
والذين نزحوا إلى كركوك بعد ذلك التاريخ كانوا في حالة تجوال وتنقل من مكان إلى أخر بسبب اعتمادهم على مهنة الرعي تستوجب التنقل للبحث عن المرعى وفي نهاية المطاف اتخذوا موطنهم الحالي موقع ثابت ومستقر وذلك بعد عام 1851 م وكانت هذه المنطقة خالية وأراضي زراعية تعتمد على الأنهار والكهاريز الموجودة في المدينة ومنها نهر ( الدهنة ) الذي يصل الى تسين (تسعين) وكان اختيارهم لهذا الموقع له جدوى اقتصادية حيث كانوا على مسافة قريبة من القورية والمحلات السكنية في الجانب الكبير لأجل تصريف وبيع منتجاتهم من الحليب والألبان والصوف و الأغنام بالإضافة إلى تجاورهم مع أهل تسعين الذين كانوا مشهورين في الزراعة والتجارة والتي يعتمد عليها الحديديين لاسيما بعد انتهاء موسم الحصاد وكما ذكرت انفا وتوطدت من جراء ذلك العلاقة فيما بينهم ويذكرها الطرفين في مجالسهم ومعرفة هذه العلاقة التي لازالت قائمة بين الأحفاد حيث استقرت عائلتان من عوائل الحديديين وتطبعوا معهم بعد ان تطورت ووصلت إلى حالات الزواج والتصاهر .
ومن أبرزها كانت مع عائلة المرحوم (محمد علي كهيه) عميد الأسرة الذي كان له موقعه الاجتماعي الكبير في قلوب العشيرة وان هذه العلاقة لم تختصر فقط مع أهل تسعين انما مع جميع العوائل الكردية والتركمانية حيث كان التجاور مع العوائل التركمانية التي كانت تسكن في منطقة صاري كهيه وسوق القورية مشهود لها بعلاقات طيبة وحميمة وعلاقات واسعة مع العشائر الكردية في رحيم اوه والاسكان وامام قاسم والشورجة بالاضافة الى العشائر في القرى التابعة لناحية شوان وطقطق وناحية قره عنجير وقضاء جم جمال من خلال تواجد عوائل من العشيرة معهم والتعايش بسلام وامان وحماية منقبل افراد العشائر خاصة في مواسم الربيع الذي تشتهر به منطقة كردستان حيث يتم تسهيل مهمة رعي اغنامهم في كل مكان وبرعاية وبضيافة كاملة ولابد من ذكر تجاورنا مع الاستاذ الفاضل ( جلال الطالباني ) في عام /1959 في كركوك وان هذا الرجل الكبير والوفي يذكر محاسن العشيرة في مجالسه عندما كان يمارس عمله النضالي والقيادي والتربوي في السليمانية وكذلك في الوقت الحاضر مؤكدا وجودهم في كركوك منذ تاريخ طويل ويذكر مقبرتهم الخاصة بامواتهم في المصلى . ان هذا جزء يسير من مجمل علاقات اجتماعية واسعة مع العوائل الكردية والتركمانية يحتاج ذكرها الى صفحات كثيرة سنطرق إليها تفصيلا إن شاء الله .
كما ورد اعلاه من تاريخ متوارث للأحفاد من الأجداد وكذلك المصادر التاريخية الموجودة في بطون الكتب تشير الى تواجدنا في كركوك والسكن فيها بعد المنتصف الثاني من القرن التاسع عشر وخاصة في موسوعة البدو للمستشرق الألماني " ماكس فون او بنهايم" الذي صدرت ترجمته إلى العربية من دار الوراق /2004 .
ولا يمكن تجاهل تاريخ العشيرة في كركوك ومقبرة الحديديين شاهد على التاريخ وان اتخاذ هذه المقبرة لدفن موتاهم هو عام /1879 م ومن الأوائل المدفونين في المقبرة المحصورة بين 1879ـ1900 م هم كل من جبل بن رسيد ومرعي حسن المدفون في عام /1894 م وشواخص فبورهم موجودة ، ونرجو من الاساتذة الفاضل (كمال مظهر ) والأستاذ(نوري الطالباني ) والأستاذ الدكتور (توفيق التونجي) السويد و (صبحي ساعتجي ) اسطنبول و( نجاة كوثراوغلو) .
ان الروايات والإحداث التي ذكرها لنا الأجداد عن المدينة وأحوالها ورجالها لازالت تنتقل من جيل ومتعلقة في الأذهان ومنها دخول الانكليز الى كركوك في نيسان عام /1918 م والانسحاب منها والعودة ثانية في تشرين الثاني عام /1918 م والقاء القبض على الشيخ محمود البرزنجي الذي يكنون له الاحترام الشديد وكذلك احداث الجيش الليفي مع اهلي كركوك من التركمان في الصوب الكبير في 4/5/1924 م وزيارة الملك فيصل الاول في كانون الأول عام /1924 م ويرافقه في هذه الزيارة الشخصية الكردية ( إبراهيم الحيدري ) وزير الأوقاف في عهده ومتصرف كركوك ( فتاح باشا) وقيام إفراد العشيرة باستقبالهم على الطرق مابين محطة القطار وبناية المحافظة حاليا لتحيتهم والترحيب بهم في موقع سكنهم الحالي وقد أمر الملك فيصل رحمة الله بتوزيع أراضي لهم وبنائها بالشكل الملائم بدلا من هذه البيوتات المشيدة من الطين والخيام العربية التي تشوه جمال المدينة وذكرت الحادثة في كتاب الدكتور الفاضل ( كمال مظهر) الجزء الأول ص 153 وفعلا تم استدعاء كبار رجال المنطقة وابلغهم بامر الملك مما أدى ذلك إلى هروب قسم منهم إلى مناطق ابعد من مركز المدينة خوفا من سوقهم الى الخدمة العسكرية ، وهنالك حقائق بالتحاق افراد العشيرة في سلك الشرطة (شرطة كركوك ) بعد تأسيس الدولة العراقية عام /1926 م وخدم فيها ثلاثون سنة وتطوع افراد منهم ايضا في صفوف القوات المسلحة والخدمة الإلزامية او دفع البدل التقدي في الفترة المحصورة بين عام 1928ـ 1936 م وحسب البيانات الموجودة لدى عوائلهم المؤشر منها الالتحاق والتسريح او دفع البدل النقدي والصادرة من تجنيد كركوك حصرا وبناء على ماورد اعلاه بالامكان الاستاذ ( ابراهيم اوجي ) ان يستفيد من هذه الملاحظات ويقوم مشكورا بتدقيق مقالته المنشورة في موسوعة تركمان العراق ومن اهمها تاريخ تواجدهم وفيما يتعلق بالملاحظة الواردة فيها عن قيام حكومة كركوك عام / 1960 م بتوزيع ا راضي سكنية لهم وبمسافة (70 م ) لكل عائلة وللإيضاح في هذا الشان نقول ان جميع الأراضي المملوكة لهم حاليا تم شرائها من ملاكيين الأراضي في كركوك ومن بينهم المرحوم ( محمود سيد جهاد ) واليهودي ( اسحاق عبودي باشا جفيل ) واخرين معروفين لدينا من رجالات كركوك وبموجب سندات العقار الموجودة في التسجيل العقاري وبالإمكان العودة والرجوع اليها للتأكيد فقط وكانت الأراضي المحيطة بالقرية في حينها خالية من البناء والسكن وكانوا أفراد العشيرة يقومون باستقلالها للزراعة مقابل ثمن بسيط او حصة من الناتج الزراعي ورغم العرض التي تقدم لهم من قبل اصحابها بشرائها كانوا يرفضون ذلك وكانت تصل في بعض الأحيان إلى منحها لهم بدون مقابل وهكذا كانت العلاقة الطيبة بينهم وبين الملاكين من أهالي كركوك والتي تستند الى الاحترام المتبادل وهي علاقات حميمة اخوية خالصة من المصالح و الغايات والأهداف وهذه العلاقة سوف تبقى خالية في النفوس ونحمل شعلتها جميعا من اجل تطويرها وتعزيزها وعود على ذي بدء ان استقرار العشيرة في هذه المنطقة قد أدى ذلك الى ترك مهنتهم السابقة والتحول الى العمل في دوائر الدولة وخاصة شركة نفط الشمال (I . P . c) سابقا عام / 1927 م حيث كان الطلب على الايدي العاملة مما سنح لهم الفرصة للعمل بها بالاضافة الى الاشتغال في الدوائر الاخرى مع تحول قسم منهم للعمل في القطاع الخاص وبمهن مختلفة كما قام الاباء في تسجيل ابنائهم في المدارس القريبة من المنطقة منها مدرسة الفيصلية الابتدائية في صاري كهية ومدرسة المحطة قرب محطة القطار ومدرسة الوطن التي تم افتتاحها عام / 1959 م بجوار المنطقة والدراسة في المدارس الثانوية في كركوك ( ثانوية كركوك والمصلى وتسعين ) والتحاقهم بعد ذلك الى الجامعات والكليات والتخرج منها والتحاقهم للعمل كل في مجال اختصاصة وخاصة في مجال سلك التعليم .
ان المجتمع الحديدي عرب اصلاء وكما هو معروف لدى اهل كركوك جميعا من الاكراد والتركمان و المسيحيين هو مجتمع مسالم يحترم الاخرين بشكل كبير ويتمتع افراد العشيرة بخلق عالية وملتزمون بالعادات والمثل العليا كالصدق والوفاء والشجاعة والتواضع ومشاركة الاخرين في سرائهم وضرائهم وبعيدون كل البعد عن النفاق والحسد والنميمة ومن صفاتهم حسن الجوار والعلاقات الطيبة وعدم الاعتداء على الاخرين حيث لم يذكر تاريخ العشيرة واهالي كركوك جميعا حالة اعتداء واحدة وهو فخر و اعتزاز للعشيرة ويشهد على ذلك سكنة الدور المحيطة لهذه القرية البسيطة المتواضعة بل هم حراس امناء على املاكهم وعلى دورهم ويعيشون في وسطهم في حالة أمان وراحة نفسية لايعكرها سوء لأنهم أناس ينهلون من مبادئ الدين الحنيف قيمة السامية وان التقوى هي زادتهم الوحيد ولو تعمقت في العلاقات الاجتماعية فيما بينهم . واطلعت عليها عزيزي القارئ لأخذك العجب من التقاليد الأصلية المتوارثة حيث التعاون والألفة وصلة القربى سيدة المواقف في علاقتهم ولا يمكن التمييز بين الغني والفقير و الكبير والصغير عائلة متجانسة وأرقى حالات التعاون لديهم تجدها في حالات الوفاة و الزواج حيث يتكفل أبناء العشيرة جميعا لكل متطلبات ومستلزمات مراسيم الفاتحة من الدفن إلى التكفل بأبناء العائلة في حالة عدم وجود مورد معاشي لهم وكذلك في حالات الزواج حيث يقومون بتحضير ما يلزم من مال وأثاث وملابس ومراسم الفرح ......
هذه الكلمات المتواضعة أحببنا ان يطلع عليها الأخوة في كركوك عبر هذه الوسيلة الإعلامية للفائدة وللوثوق والاعتزاز الكبير الذي نحمله في نفوسنا الى أبناء المدينة مدينة الأحلام وعشق الطفولة مدينة السحر والجمال والذكريات ولو اعج الحب والعشق والهوى الذي اشمة في أنسام . صباحاتها الباسمة كركوك انا المثبت في أحيائها وأحشائها وأتغذى من مفاتنها فكوني لنا وللجميع بردا وسلاما ....
الحاج
ياسين احمد الحديدي
18/3/2006
العراق ـ كركوك
1273 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع