بدري نوئيل يوسف ـ السويد
احدى أسواق مدينة الموصل
جارتنا (ام فادي ) هي احدى الامهات التي قَلعتّها الظروف من جذورهما الموصلية ، وتعيش الغربة مع عائلتها في بلد أمين ،لكنها لن تنسى الوطن ولا من عاشوا في قلبها ، يزداد اشتياقها لمن اجبتهم وأحبوها وفتحت الغربة لها افاقا للذكريات وزادتها حزنا وأوجاع
وتعد العادات والتقاليد والفلكلور احدى دعائم هويتها ، ام فادي تبني علاقة حميمة بينها وبين جيرانها في بلد الاغتراب وتحافظ على امتداد الحياة الاجتماعية بكل مقوماتها وتعطي للجميع حبها من دفء الماضي ، وتمثل الوفاء لآبائها ولأجدادها من خلال تمسكها بقيمها وأخلاقها السامية وحبها لكل شبر من الوطن الام .
في احد الايام قرعت جرس باب شقتي وبعد ما فتحت الباب ارى ام فادي تحمل طبق صغير ملفوف بورق جميل .
قالت لي بفرح وسرور : تفضل جارنا هذه حلاوة الموصل . لان غدا يبدأ صوم الباعوثة .
فرحت كثيرا لاني اكثر من عشرين سنة لم اذق طعم الحلاوة الموصلية ، شكرتها ورحبت بها ودعوتها على فنجان قهوة وتجلس مع عائلتي ، وافقت ام فادي وأردفت قائلة :
إذا كنت تبحث عن العراق فهو يعيش في قلوبنا وذاكرتنا ، حبه ينبض مع كل دقة قلب .
قلت لها مستغربا :
كيف تذكرت حلاوة الموصل ، وهناك في مدينة النبي يونان الدخان والحرائق ورصاص الموت والسلاح حتى الطيور المهاجرة لم ترجع لأعشاشها .
قالت بنبرة حزينة :
احداث مؤلمة وحزينة توالت على الموصل ، وحتى قبر النبي يونان الذي كان تحت الجامع نبي يونس حطموه بالمعاول ثم فجروه، إلا أنا مازلت احافظ على تقليد ورثته من ابائي .
قلت لها :
يعتبر في هذا التقليد أن هذه الحلاوة نذور وبركة ، وحتى المسلمين من اهالي الموصل يزداد اقبالهم لشراء وإعداد حلاوة الموصل مع اقتراب صوم نينوى الباعوثة وتسمى باللهجة الموصلية حلاوة الخضر الياس .
اردفت قائلة :
اعتاد المسيحيون بعد انتهاء فترة الصوم وهي ثلاثة أيام (باعوثة نِينَوَى) يأكلون حلاوة الزمن ، عمل الحلاوة طقوس توارثوها من الاجداد على مر الايام ولا تخلوا من البساطة والخرافة ، فحلاوة الباعوثة تعبر عن الفرح والسرور بعد انتهاء الصوم ونيلهم غفران خطاياهم ، كما نادى يونان وطالب اهالي نينوى الصوم حتى ينالوا الصفحَ عن ما اكترثوا من خطايا .
قلت لها :
حلاوة الباعوثة اصبحت عادة من عادات اهالي الموصل وتمثل تظاهرة اجتماعية فقد تأثر الموصلين بالجوانب الايجابية لهذه العادة مهما كانت على درجة الصواب منها ، ومع اقتراب موعد الصوم تنتعش الاسواق والمحلات الخاصة لبيع هذه المادة . ولكن من اين جئت بها .؟
قالت :
انها حضرتها هنا في بيتي ، الاسواق مملوءة بالمواد الاولية لصناعة الحلاوة .
سألتها باندهاش :
كيف تعلمت صناعة الحلاوة .
أجابت :
اتذكر انني كنت بعمر اثنا عشر سنة ارافق والدتي (رحمها الله) ويصاحبنا اخي الاكبر مني يحمل الصواني وأنا احمل كيس من القماش فيه السمسم والهيل والجوز بصحبة جارتنا المسلمة أم عمر التي تحرص على تقليد عمل هذه الحلوى وتوزعها على أقربائها ، إعداد الحلوى للمسلمين يكون في عيد خضر الياس الذي يتزامن مع صوم الباعوثة وتحتفل بالصوم الكنائس الشرقية والغربية على حد سواء بهذا الصوم .
كنا نذهب معا الى بيت الحلاوجي في محلة باب البيض ، وبيته يعتبر معمل لصناعة الحلاوة وننتظر ساعات حتى نحصل على دورنا ، لان الازدحام شديد والكل ينتظر دوره ، يقوم صاحب البيت بصناعة الحلاوة بمساحة الصينية أو الصواني التي معنا ويبدأ بتقطيعها الى قطع صغيرة ، أما المسلمين فكانوا يأخذون صينية الحلاوة دون تقطيع ويذهبون بها الى جامع الخضر الياس لكي تحصل البركة عليها ويعودون بها الى البيت ، او يتركون الصينية بالبيت طيلة الليل دون تقطيع حتى يأتي الخضر ويضع البركة عليها بواسطة ضربها بعصاه وهذه من التقاليد والمعتقدات المورثة فكريا ودينيا .
قلت لها :
اصبح إعداد الحلاوة عادة من عادات الموصلين ، تعبر عن نمط في سلوكهم وصورة عن ممارستهم لعادة
فهي مرآة لحضارتهم ونمط لسلوكهم التي تعبر عن النفوس الطيبة لأهل المدينة ، ولا اعتقد ان هذا المعتقد يقبلها العقل وان يقوم الخضر بهذه المهمة فأنه يظل تقليد من تقاليد الموصلين التي يتمسكون بها ويعتبرونها جزء من تاريخيهم وحياتهم البسيطة ، وتبقى صناعة الحلاوة بهذا الموسم من الصوم على الرغم من صحة المعتقد او خطئه احياء لموسم الباعوثة في الموصل .
1591 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع