د. محمد عياش الكبيسي
إن رحلة العرب من هلالهم الخصيب إلى الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط ليست حدثا جزئيا أو هامشيّا، وهو بمآلاته وتداعياته البعيدة قد يكون أخطر من الكارثة نفسها التي تحل في هذه البلاد.
إن مما يثير الريبة في القرارات الأوروبية السريعة لاستيعاب اللاجئين هو الصعود المفاجئ للخطاب الإنساني الرحيم بعد سنوات طويلة من اللامبالاة وقلة الاهتمام بمعالجة أصل المشكلة لحد هذه اللحظة، حتى تشكلت صورة لدى المثقف العربي أن اليد التي تصنع المشكلة في بلادنا قد تكون هي اليد نفسها التي تستقبل أولئك اللاجئين في تلك البلاد!
أما الموقف العربي والإسلامي فيبدو أنه قد فقد القدرة على المستويين، فلا هو قادر على حل المشكلة في أرضها ومهدها، ولا هو قادر على ملاحقة آثارها ونتائجها. إن خروج السنّة العرب من هذه المنطقة الممتدة من الموصل والأنبار شرقا إلى حلب ودمشق غربا سيترك فراغا كبيرا لا ندري بالضبط من الذي سيملؤه! لكنه على كل الاحتمالات لن يكون صديقا للمنطقة ولا عنصر استقرار فيها.
إن هذه المنطقة الاستراتيجية على مستوى العالم تتعرّض اليوم للحرق والحرث وكأنها تُعد إعدادا جدّيا لزراعة كيان جديد، وليس مجرد تغيير في الخارطة السياسية، إننا هنا لا نتكلّم عن فيدراليات أو دويلات، بل نتكلم عن تغيير جوهري على كل المستويات بما فيها (الإنسان) الذي استقرّ على هذه الأرض وأسّس عليها أولى حضاراته التاريخية!
لو أخذنا مثلا مدينة مثل الفلوجة فإن بعض الإحصاءات أوصلت عدد النازحين منها الآن قرابة %80، بمعنى أننا نتكلم عن مدينة أشباح قد خلت أغلب بيوتها من ساكنيها، وربما لو كانت الأبواب مفتوحة للهجرة لما بقي فيها أحد، وبكل تأكيد أن المدن السورية قد تعرّضت لنزوح أكبر وتدمير أشد، فماذا يعني هذا؟ وما هي نتائجه المتوقعة؟ وهل كان كل هذا بمعزل عن الإرادة (الدولية)؟ إن مخيمات اللجوء في تركيا والأردن ولبنان مهما كانت قسوتها فإنها تحتفظ بآمال العودة إلى (تراب الوطن)، أما العابرون إلى أوروبا فأغلب الظن أن هذه الآمال ستتلاشى عندهم بعد حصولهم على (الجنسية الأوروبية)، وربما بمجرد الحصول على كارت الإقامة الدائمية، خاصة مع وجود حالة نفسية احتجاجية على الواقع المر الذي أخرجهم من بلادهم وعلى موقف الأمة كلها من هذا الواقع.
حقيقة أننا لا ندري ما الذي يدور في أذهان (القادة العرب) لمواجهة مثل هذه الاحتمالات الكارثية بكل أبعادها ونتائجها، وحتى بالنسبة لتركيا صاحبة الموقف المتقدم نسبيا قياسا بالمواقف العربية، وهي لا شك معنية بأي تغيّر من هذا النوع ولو على سبيل الاحتمال.
ما الذي يمكن أن نقدمه؟
هذا هو السؤال العملي الذي يشغل بال الكثيرين من الغيارى والمخلصين، وهو السؤال الذي ينبغي أن تدور حوله الجهود بعيدا عن النواح والبكائيات التي لا تزيد الطين إلا بلّة.
إن المحطة الأهم التي يمكن أن نجد فيها بعض الأجوبة العملية القابلة للتطبيق والقياس هي المحطة الوسط بين نقطة الانطلاق (الوطن الأم) ونقطة الوصول (أوروبا)، لأن منع الهجرة أو حسم أسبابها أمر خارج عن إمكاناتنا، أما إذا وصل المهاجر إلى هناك فإن الرغبة بالاستقرار والتجنّس ستكون أكبر بكثير من أمنياتنا ومجادلاتنا.
إن منطقة العبور الأهم هي تركيا ثم كردستان العراق، وهاتان المنطقتان قد وفّرتا العبور الآمن والتواجد المقنّن دون عقبات أو تبعات، لكنهما غير قادرتين لحدّ الآن على توفير مستلزمات العيش لهؤلاء النازحين، ولا توجد حتى فرصة للبحث عن عمل للقادرين منهم على العمل، فيكون اعتماد اللاجئ على ما أحضره معه من مال أو متاع، وهذا هو الدافع الأهم للعبور نحو أوروبا التي يتوقّع منها أن تسدّ كل هذه الضرورات مع تأمين مريح لمستقبلهم ومستقبل أولادهم.
لقد قابلت عددا من الشباب الذين تمكنوا من عبور الحدود السورية التركية بطرق أقرب إلى المجازفة والمغامرة، فلما وصلوا إلى تركيا شعروا بالضياع، وكأنّ هناك من خدعهم فلا مأوى ولا سكن ولا طعام ولا شراب ولا فرصة عمل، وأصبحوا عالقين دون حل، وهم يجزمون أنهم ما فكروا أبداً بالهجرة إلى أوروبا إلا بعد أن وقعوا في هذا المأزق!
إن الفكرة الجوهرية في الموضوع أنه إذا كانت دولة مثل تركيا قد فتحت أبوابها لاستقبال اللاجئين من السوريين والعراقيين، فإن السعودية ودول الخليج قادرة لا شك أن تعمل على توفير قدر من مستلزمات الاستقرار النسبي لهؤلاء اللاجئين عبر دعم مؤسسات المجتمع المدني ذات الأنشطة المتنوعة خاصة تلك المتعلقة بالتربية والتنمية الذاتية وسدّ الحاجات الأساسية.
في لقاء مع مؤسسة خيرية عراقية مهتمة بشؤون اللاجئين عرفت منهم أنهم تمكنوا من استيعاب نحو سبعة آلاف طالب في مدارسهم الخاصة استيعابا مجانيا، مع توظيف عدد مناسب من المدرسين والإداريين، وقد كانت نتائج الدراسة عندهم أفضل من المدارس الحكومية، هذا نموذج جيد وقابل للتطوير.
أما الخطوة التي بادرت بها بعض دول الخليج لإنشاء مشاريع تنموية في كردستان العراق فإنها لا شك خطوة مرحّب بها من قبل قيادة الإقليم، وهي في الوقت ذاته عامل مهم لشعور اللاجئين بقدر من الاطمئنان والاستقرار، وأظن أن الحكومة التركية سترحّب أيضا بمثل هذه المشاريع، خاصة مع النهج التنموي الذي تتبعه حكومة العدالة والتنمية، ويمكن أن يكون ذلك باتفاقات رسمية تعزّز من دور اللاجئين وتشجيعهم على العمل وفق الصياغات القانونية الجديدة المنبثقة من هذه الاتفاقات.
921 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع