د. منار الشوربجي
كان مستحيلا أن يتصفح أحد الصحف العالمية، لا الأمريكية وحدها، طوال الأسابيع الماضية، دون أن يصطدم بأخبار دونالد ترامب. والحقيقة أننى ما من مرة استمعت فيها للرجل أو قرأت تصريحاته إلا وقفزت لمخيلتي مباشرة حلقات من تاريخ أمريكا من العبودية لمجازر السكان الأصليين دون أن يذكر الرجل حرفا واحدا عن أيهما. فدلالات خطابه والمفردات التي يستخدمها لا تخطئها العين!
ودونالد ترامب رجل أعمال ناجح وصاحب ثروة هائلة، رشح نفسه للرئاسة منذ أسابيع قليلة، وظل من لحظتها في بؤرة الاهتمام الإعلامي بسبب تصريحات أدلى بها عن المكسيكيين أثارت احتجاجا رسميا من المكسيك واستهجانا من عدة دول بأمريكا اللاتينية واستياء واسعا داخل أمريكا كانت نتيجته أن لفظت سلسلة من المؤسسات العملاقة منتجاته وانسحبت أخرى من أعمال مشتركة لها معه. واللافت أنه، مع ذلك، يحتل في عدة استطلاعات للرأي المركز الثاني في الشعبية لدى الناخبين الجمهوريين (بين أربعة عشر مرشحا يتنافسون على ترشيح الحزب الجمهوري)، يسبقه فقط جيب بوش فقط.
وقد بدأت متابعتي لترامب عن كثب منذ تولي أوباما الرئاسة. فهو كان أحد نجوم حملة متعصبة عرفت باسم «شهادة ميلاد» أوباما. وهي الحملة التي زعمت عدم دستورية تولي أوباما الرئاسة بعد أن ادعت أنه ولد في كينيا لا في الولايات المتحدة، بما ينتهك، لو كان صحيحا نصا دستوريا صريحا. وقد كان ترامب في قلب تلك الحملة/ الحركة وظل يصر على أن ينشر أوباما شهادة ميلاده علنا للشعب الأمريكي. ولكن حين نشر أوباما الشهادة وتأكد زيف تلك المزاعم، لم يعتذر ترامب وانما خرج بمقولة لا تقل سخفا طالب فيها أوباما بأن ينشر أوراق التحاقه بالجامعة زاعما أنه «ربما» كتب في أوراق التحاقه زورا أنه كيني الجنسية «حتى يحصل على إعانة مالية» من الجامعة!
وفي تلك الفترة نفسها كان للرجل تصريح عن العراق اعتبر فيه أن «المنتصر يستولي على الغنائم». فهو قال إن على أمريكا ألا تترك العراق وانما «نبقى ونأخذ النفط» وكأن لا صاحب لنفط العراق.
أما تصريحه الذي أثار الضجة الأسابيع الماضية، فقال فيه إنه «حين ترسل المكسيك ناسها فإنهم لا يرسلون الأفضل.. وانما يرسلون أولئك الذين عندهم مشكلات كثيرة وهم يأتون بتلك المشكلات لنا، فهم يجلبون المخدرات والجريمة وهم مغتصبون للنساء وبعضهم، على ما أظن، أناس طيبون»، ثم أضاف «وهذا لا يأتي فقط من المكسيك وانما من كل أمريكا اللاتينية والجنوبية، واحتمالا.. احتمالا من الشرق الأوسط». وقد استتبع ذلك التصريح احتجاجا من دولة المكسيك وردود أفعال قوية من أمريكا اللاتينية ومن بعض الشركات العملاقة التي يعمل معها ترامب بما في ذلك قنوات إن بي سي، وسلسلة متاجر ميسيز، وقنوات يونيفيزيون الأسبانية، ولا تزال البقية تأتي.
وتلك ليست المرة الأولى التي ينطق فيها ترامب بما يسيء لشعوب أخرى بل وللمكسيك تحديدا. فقد نشرت الصحف مؤخرا أنه حين حصل المخرج المكسيكي أليندرو جونزاليز إينياريتو على الأوسكار هذا العام، بعد أن حصد جوائز سابقة، علق ترامب قائلا إن تلك «كانت ليلة عظيمة للمكسيك، كما هي العادة هنا... والرجل يصعد ويصعد، مما جعلني أقول ماذا يفعل هذا الرجل؟ إنه يرحل بكل الذهب».
ما علاقة تصريحات الرجل بالعبودية والتاريخ المرير للسكان الأصليين؟ الإجابة عندي أن كلمات الرجل وخطابه تنضح بخطوط مقيتة في الثقافة الأمريكية مستمدة من الخبرتين.
فقصة شهادة الميلاد و«إعانة الفقر» في الجامعة كان مستحيلا أن تثار لولا أن الرئيس ذو بشرة سوداء. وأنت إذا قرأت ما قاله عن المكسيك ترى ملامح ذاكرة عامة ترفض الاعتراف بأن أرضا شاسعة مما يسمى اليوم الولايات المتحدة كانت مملوكة أصلا للمكسيك حتى وقعت «الحرب المسكيكية في القرن التاسع عشر، وضمت الولايات المتحدة تلك الأراضي. والمكسيكيون الذين صاروا منذ ذلك التاريخ أمريكيين لم يأتوا لا بجريمة ولا مخدرات، زاد عليها ترامب مؤخرا الأمراض، حين رفض الاعتذار عن الإساءة للمهاجرين.
لكن ما قاله ترامب تحديدا في حق المكسيكيين وأبناء أمريكا اللاتينية، وبالمرة الشرق الأوسط، مفردات مستقاة مباشرة من أسطورة التفوق الأبيض ولها جذورها في التاريخ. وهو خطاب استخدم دوما ضد المهاجرين عموما أو ضد الشعوب المراد الاستيلاء على أرضها من السكان الأصليين للعراق. فتلك كلها شعوب لا تعرف كيف تستغل ثرواتها ومن ثم فهي حق للمستعمر الأبيض!
أما الحديث عن مغتصبي النساء فتلك هي الأخرى من العبارات التي طالما استخدمت في أزمنة كالحة لتبرير العبودية ثم الفصل العنصري ضد السود، واستخدمها بالمناسبة الشاب العنصري الذي قتل تسعة أشخاص في كنيسة للسود منذ أسابيع.
أما قصة المخرج المكسيكي، فتفضح المستور. فالذهب مرتبط ارتباطا وثيقا بنهب أراضي السكان الأصليين وإبادتهم، منذ كريستوفر كولومبوس. فجنون الذهب كان جوهريا في تلك المأساة. فكيف يأخذه ذلك المخرج المكسيكي ويرحل!
1024 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع