إحسان الفقيه
"سيدنا ومولانا، من نفتخر بوجوده بتوفيقه لإنشاء السكة الحجازية الشامية ذات المنافع الجليلة، إعماراً للبلاد وإحياء للعباد وخدمة للحرمين، وتسهيلاً لقاصدي الزيارتين، وتوسيعاً لدائرة التجارة الرابحة، وتأسيساً لخطة الزراعة الراجحة، وحفظاً للموازنة السياسية في البلاد المُتّسعة الشاسعة، ونفعاً للبلاد".
*كان ذلك جزءًا من رسالة إمام الشافعية في الشام "محمد عارف الحسيني" مُثنياً على جهود السلطان عبد الحميد الثاني في إقامة هذا الخط للتركيز على الجامعة الإسلامية واجتذاب جميع الأجناس المسلمة لها.
وعود على بدء، أتى أحفاد السلطان عبد الحميد، يمدّون جسور العلاقات التركية العربية مرة أخرى، بعد أن مرت بمنعطفات بعثرت تلك الأواصر.
لم ينعزل الأتراك عن العرب إلا بعد سقوط الخلافة العثمانية وإعلان الجمهورية التركية عام 1923.
ساعتها يمّمت تركيا وجهها شطر الغرب، وحدثت الفجوة الكبرى بين الطرفين.
فالعرب قد رأوا أن الجمهورية التركية قامت على جثمان الخلافة وأجهزت على ما تبقّى من حلم المسلمين في وجود راية واحدة تجمعهم، ومن جهة أخرى فإن النظام التركي العلماني يرى أن صياغة الإنسان التركي الجديد تستلزم التقارب مع الغرب، وقطع الطريق أمام النظر إلى التراث، والذي يُعدُّ العرب جزءًا أساسيا فيه.
*يُعتبر تولي حزب العدالة والتنمية شؤون الحكم منذ 2002م، إحدى أبرز المحطات التي انتعشت فيها العلاقات التركية العربية، حيث أقام أردوغان علاقات طيبة متينة بالعرب.
سلكت تركيا مسلكا راقيا مع العالم العربي يتمثل في الشراكة الإستراتيجية، والحفاظ على استقرار المنطقة، وتصفير الصراعات.
والمتابع لمسيرة حزب العدالة والتنمية الحاكم على مدى 13 عاما، وسياسته في التعامل مع الوطن العربي خاصة، يستطيع الإجابة عن هذا السؤال:
لماذا تغيرت تركيا في عيون العرب؟
يمكن إيجاز الإجابة عن هذا السؤال من خلال النقاط التالية:
1 - استدعاء الحزب الحاكم للتراث العثماني ومحاولة جعله فكرة مركزية لمشروع النهضة التركي وتعبئة الناس للالتفاف حوله، حظي بالقبول والرضا لدى معظم العرب، نظرا لارتباط كثير منهم بعصور الخلافة والراية الواحدة الجامعة للأمة.
2– الإصلاحات السياسية والاقتصادية والثقافية التي قامت بها حكومة العدالة والتنمية، كانت بمثابة أداة من أدوات التأثير التركي في العالم العربي الإسلامي، حيث إنها لاقت قبولا واسعا بين الأوساط المختلفة، بين الإسلاميين والعلمانيين والليبراليين وأصحاب التوجهات المختلفة.
3– بعد انتخابات 2002م بأسبوعين جمع رجب طيب أردوغان السفراء العرب في أنقرة، وكشف لهم عن نية الحكومة في إحياء العلاقات بين تركيا والعالم الإسلامي والعربي من جديد.
4– قدّمت تركيا في ظل حكم العدالة والتنمية نموذجا طيبا مقبولا لدى الدول الإسلامية والعربية مثّل عنصر جذبٍ لهم، وغيّر نظرتهم لتركيا، كانت أبرز سمات هذا النموذج بحسب دراسة أعدها جمع من الباحثين بمركز الجزيرة للدراسات بعنوان "تركيا بين تحديات الداخل ورهانات الخارج":
أولًا: التناوب على السلطة وإدماج التيار الإسلامي في العملية الديمقراطية.
ثانيًا: النموذج الاقتصادي الذي تقدمه تركيا باعتبارها أكبر اقتصاد في الشرق الأوسط، في الوقت الذي لا تملك فيه موارد الطاقة على العكس من غالبية الدول العربية.
ثالثا: التوفيق بين المعاصرة وبين الحفاظ على الهوية بجذرها الثقافي والديني والتاريخي في إطار مقبول دوليا وإقليميا.
رابعا: الفصل بين الحزب والدولة في المجال العام عبر الفصل الواضح بين حدود ومهام جهاز الدولة والحزب الحاكم.
خامسا: تكوين مجموعات الضغط (اللوبي) في أمريكا وليس الاعتماد على شركات العلاقات العامة موسمية الطابع.
سادسا: تحقيق التوازن في التعامل مع الولايات المتحدة بما يُحقق المصالح الوطنية والاستقلالية معا.
4– اقتربت تركيا من العالم العربي الإسلامي بعد قرار البرلمان التركي عام 2003 بعدم نشر قوات أمريكية في تركيا للوصول إلى العراق ورفض المشاركة التركية في الغزو، وهو ما اعتبره كثير من العرب خروجا عن التبعية الأمريكية والغربية التي عاشت في ظلها تركيا الأتاتوركية.
5– زاد من شعبية الحزب الحاكم موقف أردوغان في مؤتمر دافوس الاقتصادي، حيث انتقد وبشدة الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز وحكومة الكيان الصهيونيّ الغاصب لاعتداءاتها الوحشية على غزة، وانسحب أردوغان على إثر ذلك من المؤتمر.
واعتبر العرب أردوغان بعد هذا الموقف زعيما شعبيا في الأوساط العربية، وأزال مفهوما رائجا بأن تركيا حليف إستراتيجي لإسرائيل.
6– الدور الفاعل لتركيا تجاه قضايا العالم الإسلامي العربي، أبرزها فلسطين، ودعم قطاع غزة ومحاولة فك الحصار، والذي تعرضت فيه السفينة التركية مرمرة للاعتداء الصهيوني فيما عرف بمجزرة أسطول الحرية عام 2010، بالإضافة إلى التنديد بجرائم الاحتلال ضد شعب غزة.
كما أولت الحكومة التركية عناية خاصة بالأزمة السورية، وتعتبر من أول وأكثر الدول إدانة لجرائم بشار الأسد، ولها موقفها الثابت في المطالبة بتنحّي الأسد، بالإضافة إلى فتح أبواب تركيا للاجئين السوريين، وتقديم الدعم والرعاية لهم كما لم تفعل أيّ دولة أخرى لا عربية ولا غربية (بل.. ولا مقارنة أصلا).
7– تعمل تركيا من خلال سياستها الخارجية المتوازنة على وقف الزحف والتمدد الإيراني في المنطقة رغم استمرار العلاقات الاقتصادية معها، وكان آخر ذلك دعمها وتأييدها لعاصفة الحزم، وإعلانها الدفاع عن أراضي السعودية ضد أي اعتداء على أراضيها.
9– الموقف التركي الداعم لثورات الربيع العربي، ثم رفض الانقلاب في مصر، دعم مكانة تركيا وحكومتها لدى العرب، باعتبار هذه الدولة ترعى الديمقراطية وتحترم آلياتها في الداخل والخارج.
وقد نتحدّث بتفاصيل كلّ نقطة على حدة.. في زمن قادم..
903 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع