علي الكاش*
نظرية الإرهاب كما عهدناها في العراق بعد الإحتلال هي أن غياب الأمن يؤدي إلى الفوضى، والفوضى تؤدي إلى الإرهاب، وغياب العدل يؤدي إلى الفوضى، والفوضى تؤدي الى غياب الأمن، وغياب الأمن يؤدي إلى الإرهاب. إنها حلقة تنتهي حيث تبدأ، وتبدأ حيث تنتهي. إن العدالة هي التي تميز العالم المتحضر عن العالم المتخلف، وتفصل بين الحكومة الواعية والحكومة الفاسدة، وتفرق بين الراعي الحكيم عن الراعي الفاسق. وبقدر ما تتنج العدالة الأمن والسلام، بقدر ما ينتج الظلم العنف والإرهاب.
منذ الغزو الأمريكي الإيراني للعراق شهد البلد طفرة طويلة للوراء، ووصل الظلم إلى مستويات غير معقولة إنسانيا ودوليا على أيدي دعاة المظلومية الذين تبين إن الظلم لم يفارقهم منذ أن غدروا بإماميهم علي والحسين ولحد الآن. إحتل العراق كالمعتاد مع ربيبته إيران المرتبة المتقدمة دوليا في عدد الإعدامات، والعراق كما هو معروف تابع قزم وذليل لنظام الملالي الحاكم في إيران، لا يأخذ منها الإيجابيات وإنما السلبيات فقط. أعلنت منظمة حقوق الإنسان الإيرانية أن نظام الملالي نفذ حكم الإعدام ضد 1900 شخص منذ استلام روحاني السلطة عام 2013 وهذا الرحاني يُعد من المعتدلين فما بالك بغير المعتدلين؟ وبحسب التقرير الدوري لمنظمة حقوق الإنسان الإيرانية، فإن هذا الرقم يعني أن معدل 3 أشخاص يومياً تم إعدامهم خلال 6 أشهر في مختلف السجون الإيرانية. أما العراق فأضعاف هذا العدد لأن الإعدامات العلنية لا تشكل إلا نسبة ضئيلة من الإعدامات السرية التي تقوم بها عناصر الشرطة والجيش والميليشيات الشيعية وإنضم لهما مؤخرا الحشد الشعبي وتنظيم الدولة الإسلامية.
سنترك الإعدامات السرية جنبا لصعوبة البحث فيها بسبب عدم توفر المعلومات الدقيقة، لأن كل جهة تعدم وتدفن ضحاياها على كيفها ويسجل الضحايا كمفقودين في دولة القانون. مهزلة القضاء العراقي انه لم يُبنى على المحاصصة الطائفية كبقية المؤسسات بل إنحصر بشيعة السلطة فقط، وكل القضاة هم من الشيعة، ولا يوجد معيار للكفاءة عند القضاة فهم يستنبطون الأحكام من السلطة السياسية وما تمليه عليهم ولا علاقة لهم بالشرع ولا الدستور، أو يفسروا النصوص حسب شهية الحاكم وزبانته. سبق ان صدرت أحكام هزيلة جعلت القضاء العراقي مسخرة أمام المنظمات الدولية والمعنية بحقوق الإنسان، حتى الشرطة الدولية (الأنتربول) رفض التعامل مع مذكرات القضاء العراقي لأن طابعها سياسي او ان الأحكام الصادرة تنتزع من خلال التعذيب القسري. لذا ليس من المستغرب ان يستشهد القاضي العراقي محمود الحسن بالقول (العدل أساس الملك) ويعتبره من القرآن الكريم! علما أن هذا المأفون سبق ان وزع سندات أراضي للناخبين شريطة إنتخاب المالكي، وتبين انها غير صحيحة، هذا القاضي من أبرز القضاة على الساحة اليوم، وقِس على ذلك بقية القضاة!
الشرع كان شديدا مع القضاة، وهذا يفسر سبب رفض كبار العلماء المسلمين منصب القضاة رغم أهميته ومنزلته العالية. خشية من الله وتيمنا بقوله الله تعالى في سورة النساء/58 (( وإذا حكمتم ببين الناس أن تحكموا بالعدل)) التي صارت أساس الحكم ومن أمهات الآيات. قال الإمام الشوكاني" هذه الآية من أمهات الآيات المشتملة على كثير من أحكام الشرع والعدل هو: فصل الحكومة على ما في كتاب الله سبحانه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا الحكم بالرأي المجرد ، فإن ذلك ليس من الحق في شيء إلا إذا لم يوجد دليل تلك الحكومة في كتاب الله ولا في سنة رسوله فلا بأس باجتهاد الرأي من الحاكم الذي يعلم بحكم الله سبحانه وبما هو أقرب إلى الحق عند عدم وجود النص".
وضع المسلمون الأوائل شروطا صعبة لمن يتولى القضاء، لا يتوفر شرط واحد منها في قضاة العراق المحتل! من هذه الشروط، أن يكون حافظا لكتاب الله أو يعرف كل ما فيه من أحكام، وأن يتمسك بكتاب الله في أحكامه، وأن يكون عالما بأمور الفقه والشريعة ويصل إلى مرتبة الإجتهاد، وأن لا يسعى لمنصب القضاء بل يُطلب منه توليه، أن يكون بعيدا عن الأهواء والميول، لا يقبل الرشوة والمحاباة وموالاة الحكام، علاوة على بقية الصفات المتعلقة بالشخصية كالذكاء والفطنة والسلامة العقلية والجسدية والذهن الحاضر، والقدرة على التحليل والإستنباط وغيرها. لذا يمكن الجزم بأن قضاة العراق أبعد ما يكونوا عن هذه الشروط، فهم من نتاج بول بريمر والعملاء، هذا ما يقوله واقع الحال وليس نحن فحسب. إن القضاء الذي يسجن عشرات الآلاف بوشاية المخبر السري ولا يطلق سراحهم رغم براءتهم إلا بعد مرور عدة سنوات دون تعويض وإعتراف منه بخطأ القضاة لا خير فيه، بل يمكن القول ان القضاء العراقي إضافة إلى سياسية الحكومة الطائفية هما المفقس الأساسي للإرهابيين.
آخر مهازل القضاء هي المسرحية القضائية التي جرت على أرض المحكمة الجنائية المركزية بإخراج القاضي الكوميدي ماجد الأعرجي، والتي حضرها جمهور غفير من ذوي قتلى سبايكر، وإستغرق العرض ساعة واحدة فقط، في أسرع محاكمة تأريخية في العالم، تستحق أن تدخل سجل غينيز للأرقام القياسية. صحيح إنها تتعارض مع اصول المحاكمات الجزائية وقانون العقوبات البغدادي المعمول بهما في المحاكم العراقية، ولكن سنغض النظر عن حديث القوانين، لأنه أشبة ما تكون بإلقاء نكته في مجلس فاتحة!
هذه المسرحية بطلها شخص واحد فقط هو القاضي الشيعي ماجد الأعرجي، وأغرب ما فيها إنها خلت من المحامين والشهود! بل أن احد المتهمين إعترف بأنه قتل (1000) من الجنود في معسكر سبياكر، والله أعلم ما الذي تعرض له هذا المتهم المسكين ليقدم إعترافا غير معقول يثير الشفقة عليه وليس التهمة! الأغرب منه إن (6) من المحكومين بالإعدام من ما مجموعه (24) محكوم ـ جميعهم من أهل السنة بالطبع ـ كانوا غير موجودين أصلا في سبايكر عند الهجوم وتنفيذ المجزرة!
اوضح أهالي المحكومين الستة وهم من عشيرة الجبور التي يبدو إنها تشيعت وإنضمت إلى ولاية الفقيه بـنهم توسلوا بالقاضي الاعرجي لإستدعاء وزيري الدولة احمد الجبوري محافظ صلاح الدين السابق والبيئة قتيبة الجبوري امام المحكمة وسماع شهادتيهما مؤكدين" ان الوزيرين يعرفان المتهمين الستة الذين اكدوا انهم هربوا من تكريت عند احتلال مسلحي تنظيم داعش لها خوفا من انتقامهم من العشيرة السائرة في خط الحكومة، نافين في الوقت نفسه ان يكونوا في المدينة عند اسر جنود سبايكر وقتلهم"، غير ان قاضي آل البيت زجرهم ورد عليهم بشتائم نالت منهم ومست عشيرتهم. إنهم يستحقوق الشتيمة فعلا بعد باعوا مذهبهم وشرفهم وضمائرهم للمالكي والعبادي. كما مُنع المتهمون من توكيل محامين عنهم بحجة ان الجريمة ثابتة عليهم! وعندما طلب أحد ذوو القتلى أعدامهم دون الحاجة إلى محاكمة! طمأنه قاضي آل البيت بقوله" اصبر علينا شوية وخلي الشغلة تمشي"! وكانت لغة القاضي في المحكمة طائفية ولغة أولاد الشوارع ممن تربوا في المباغي وعلب الليل.
لسنا بصدد الدفاع عن المتهمين، ولكننا بصدد الدفاع عن العدالة وحق المتهمين بالحصول على محاكمة نزيهة وعادلة، من قاض مؤمن بالله وله شرف وعفة وضمير حي. لو كان المحكومون هم من قاموا أو ساعدوا في تنفيذ الجريمة فإلى جهنم غير مأسوف عليهم، ولكن أن يُحرموا من المحامين والشهود والمحاكمة النزيهة، فهذا يعني إن الحكم مسيس ومبيت له! الغريب في الأمر إن وزارة العدل على لسان قرقوزها البيرقدار ذكرت بأن " احكام الاعدام التي اصدرتها المحكمة ضد 24 متهما من أصل 28 استندت الى اعترافاتهم ومحاضر التحقيق معهم"، دون التطرق الى عدم وجود محامين وشهود. والأدهى منه أن رئيس الوزراء حيد العبادي رحب بقرار القاضي الأعرجي دون أن يوغزه ضميره للإطلاع على حيثيات القضية، ولكن هل للعميل ضمير؟ قال العبادي" إن مثول مجموعة من المجرمين اليوم امام القضاء العراقي وصدور حكم القصاص العادل بحقهم دليل على انتصار العدالة على الارهاب والظلم"َ! لكن اليس المحاكمة بحد ذاتها ظلم يا ظالم؟ على أقل تقدير إنها تخالف الدستور! والأدهى منه ما جاء على لسان المفوضية العليا لحقوق الانسان التي عبرت عن إرتياحها للمحاكة الصاروخية، مطالبة رئاسة الجمهورية بالمصادقة الفورية على الاحكام حال وصولها! وذكر عضو مجلس المفوضين فلاح الياسري وهو من أتباع آل البيت" ان الحكم جاء بعد استيفاء ضمانات المحاكمة العادلة للمتهمين في مراحل المحاكمة كافة"! أشك في أن هذا العضو المنفلت قد إطلع على ميثاق حقوق الإنسان والصكوك الدولية، فهو من نتاج المحاصصة الطائفية! أما النواب وجحوش أهل السنة في الحكومة فلم يسمع لهم صوت! حتى الصاصير لها صوت وهم بلا صوت!
خلاصة القضية، ان الحكومة أرادت غلق أفواه ذوي القتلى وإنهاء هذا الملف الشائك الذي يعكر عليها الصفو بين آونه وأخرى، ولكنه أغلقته بطريقة لا تشرفها ولا تشرف القضاء العراقي. لقد ضحكت على أهالي الضحايا بغلق الملف بهذ الطريقة المبتذلة، وكان من الأولى للقضاء المسيس أن تكون المحاكمة علنية، طالما إنها صارت قضية رأي عام. ولكن القضاء يعلم جيدا أنها مهزلة قضائية ومن الأفضل سترها. هل عرفتم الآن ما معنى الحديث النبوي الشريف" القضاة ثلاثة، اثنان في النار وواحد في الجنة: رجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار". (أخرجه أبو داود).
كلمة أخيرة للقاضي الأعرجي، أعرج اللسان والضمير: ما ضرك لو جعلت المحاكمة متوافقة مع شرع الله والدستور؟ لقد نفذت أمر الحكومة، وستقبض الحساب من الحكومة، ولكنك تجاهلت يوم الحساب! يا ويلك من حساب الله! لقد خالفت أمر الله تعالى بقوله ((وأَشهدوا ذَوَي عدلٍ منكم))، سورةالطلاق/2. وخالفت أمر الله ((وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى)). سورة الإنعام/152. لذا نبشرك بأنك لن تنال عهد الله ((لا ينال عهدي الظالمين))، سورة البقرة/124. لقد حجزت لنفسك مكانا مضمونا في النار، فإلى جهنم وبئس المصير. الا لعنة الله على الظالمين.
*مفكر وكاتب عراقي
1038 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع