د. محمد عياش الكبيسي
منذ سنوات وأنا أصلّي في هذا المسجد، ولم أرَ أو أسمع أية مشكلة، فالمسجد كأنه أُسس على التقوى من أول يوم، الليلة الأولى من رمضان أحسست كأن هناك مشكلة، لكن الحديث عنها بهمس أقرب إلى الصمت، اقتربت من الإمام محاولا أن أفهم أو أسهم بحل، فأدركت أنني أمام مشكلة من نوع آخر، حتى قلت في نفسي: اللهم كثّر في مجتمعاتنا مثل هذه المشاكل!
المشكلة كانت رائعة بحق ولا تناسب إلا الناس الرائعين. إمام المسجد أحسبه من الصالحين -ولا أزكيه على الله- حث المصلّين بطريقة حييّة وخجولة على إقامة مائدة إفطار جماعي طيلة شهر رمضان كما هي العادة في كل عام، ووضع صندوقا لهذا الغرض، وكان ذلك منتصف شعبان تقريبا، في ليلة رمضان الأولى تفاجؤوا برجل من وجهاء المنطقة يأتي بخيمة واسعة ومريحة ويتعهّد بمستلزمات الإفطار من طعام وشراب، وهنا بدأت المشكلة! حيث إن أهل الخير -وهم كثر والحمد لله- رأوا كأن أخاهم هذا قد سدّ عنهم بابا من أبواب الخير، وصاروا يبحثون عن مخرج لهذه (المشكلة)، وبحكمة الإمام والإخوة المقرّبين منه توصّلوا إلى الحل والحمد لله!
إن التنافس في الخير موجود في هذه الأمة ما بقي فيها القرآن، إلا أن الذي أراه في البلد مختلف، فالتنافس هنا ظاهرة عامة، ولا أبالغ إذا قلت: إن أغلب البيوت تتنافس في أبواب الخير هذه، والمشاريع التي تُعلن في كل موسم أكثر من أن تحصى، وهي تغطّي مساحات واسعة في عالمنا الإسلامي، خاصة تلك التي تتعرّض للنكبات والكوارث، ففي كل سوق أو مركز تجاري تجد وصولات المشاركة وصناديق التبرّع، هذا لسوريا وذاك لليمن وثالث لبورما ورابع للصومال وهكذا، وهناك اجتهادات وإبداعات رائعة، منها مثلا ظاهرة (السوق الخيرية) والتي يذهب ريعها في وجه من وجوه الخير، وغالب من يقوم عليها نساء فاضلات يقدّمن ما يمكن تقديمه بتواضع وهمة ونشاط وعمل باليد بخلاف ما يُظن عن طبيعة المجتمعات المرفّهة، فمحبّة الخير والرغبة في الأجر غالبة على مظاهر الترف.
ظاهرة أخرى منتشرة بشكل كبير على مدار العام، وهي ظاهرة (المجالس القرآنية)، وهي مجالس أسبوعية تقام في بيوت أهل الخير يجتمع فيها الناس لقراءة القرآن وختمه مع تعلّم أحكام القراءة وبعض الوقفات البيانية والتفسيرية، وصاحب المجلس يبذل الطعام والشراب وكل ما يحتاجه ضيوف القرآن.
من غرائب القصص التي سمعتها مبكّرا في هذا البلد والتي تؤكّد نزعة الخير فيه، أن الدكتور محمد قطبة -رحمه الله- والذي شغل منصب وكيل وزارة التربية والتعليم، جاءه رجل سوداني قد وفد قريبا إلى الدوحة يستشيره في شراء سيارة، بحكم أن الدكتور القطبة يملك مثلها، فقال له: يا أخي، خذ سيارتي هذه واستعملها كما تشاء حتى تأخذ المعلومة بنفسك، لأني أخشى أن أنصحك وأخطئ في نصيحتك، وقد بقيت بالفعل سيارة الدكتور عند هذا الرجل السوداني لما يزيد على أسبوعين دون معرفة سابقة بينهما!
ومن الأشياء المحفورة في ذاكرتي، أن عميد كلية الشريعة الأسبق -وهو رجل بعيد عن (الإسلاميين) وله توجّهات كثيرة مخالفة لهم- رأيته ذات يوم وهو ينال من حجة الإسلام الغزالي على شاشة التلفزيون، ويأتي بالشواهد على مدى (احتقار الغزالي للمرأة)! في اليوم التالي جئت إلى أمين القسم وطلبت منه أن يعلن عن ندوة علمية أقدّمها أنا بعنوان (المرأة في فكر الإمام الغزالي)، فقال لي ناصحا: يا أخي هذه مواجهة صريحة وقد لا تكون في صالحك، ونحن كلنا تألمنا لما سمعنا، ولكن ماذا نفعل؟ لكنه استجاب أخيرا، وعقدت الندوة، وأتيت بكل الشبه التي طرحها السيد العميد ورددتها واحدة واحدة، لكني فوجئت بعدها أن الرجل ازداد تمسّكه بي، وإلى اليوم حين يراني يعاملني باحترام فائق، وإني رغم الخلاف الذي بيننا لا أكنّ له إلا كل حب واحترام، وأتمنى أن يتعلم منه بعض إخواننا العلماء والدعاة ممن لا يطيقون سماع النصيحة أو الرأي المخالف، ولا يرحبّون بك إلا إذا كنت نسخة منهم لا ترى غير ما يرون ولا تفكر بغير ما يفكّرون.
في مشهد آخر ليس مع علية القوم ولا مع عباد الله المسلمين، بل مع خيّاط هندي مقيم في هذا البلد منذ سنوات، أخذت إليه قطعة قماش مع ثوب قديم ليقيس عليه، وكانت أجرة الخياطة خمسين ريالا أو أقل، فذهبت بعد أيام لاستلام الثوبين (القديم والجديد) وأعطيته الخمسين، فمدّ يده وأعطاني خمسمائة! ما هذا؟ قال: (بابا هذا وجدته في ثوبك القديم)! لا أدري إن كان هذا الرجل الطيب قد تعلّم هذه الأمانة من بلاده، لكني متأكّد أن الجو العام في هذا البلد يشجّع على مثل هذه الأخلاق.
إن البلاد التي تفاخر بتاريخها الحضاري وآثارها وشواخصها، عليها أن تعيد النظر في تعريفها للحضارة، وأما تلك التي تعتقد أنها أوقفت عجلة التاريخ بناطحات سحابها وبصواريخها العابرة للقارات ومركباتها العابرة للأفلاك، فعليها أن تتعلم أن وصول الإنسان إلى قلب أخيه الإنسان أفضل ألف مرة من وصوله إلى القمر.
إنني لا أتكلم عن مجتمع ملائكي، ولا عن جمهورية أفلاطون، فهناك كثير من الأخطاء وكثير من المنغّصات، لكني أتكلّم عن صورة كلّية حُفرت في ذاكرتي لسنين طويلة ما اتجهت إلى بلد في هذه المعمورة يمينا أو شمالا عربيا أو إسلاميا أو أجنبيا، إلا وددت أن أرى مثيلا لها لأشعر بشيء من الراحة والطمأنينة.
• عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
1103 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع