آرا دمبكجيان
كتبنا في العدد الماضي عن أصول الأصلاحات الكمالية في تركيا و الصراع بين العلمانية و الدين على ضوء الحكم الذي صدر آنذاك على رئيس الوزراء الأسبق نجم الدين اربكان بسجنه لمدة سنة لأستغلاله الشعور الديني ضد علمانية الدولة.
نتابع في الجزء الثاني من التحقيق مصادر التمويل الأقتصادي للأسلام السياسي في تركيا في السنوات السابقة لرئاسة رجب طيب أردوغان للوزارة، أي في تسعينات القرن الماضي.
كانت كبرى تلك المصادر منظمتان أسلاميتان أقتصاديتان (كومباسان هولدينك) و (بييمباش هولدينك)، و هما شركتان قابضتان. و لهاتين المنظمتين العملاقتين آلاف من المساهمين و مئات الآلاف من الزبائن، و تتواجد نسبة كبيرة من المساهمين خارج تركيا، إذ وصلت أرقام عملياتيهما المالية في الأناضول الى عدة بلايين من الدولارات.
كانت كبرى هاتين المنظمتين كومباسان هولدينك التي ملكت كل شيء في قونية، ما عدا الماء و الهواء... كانت في كل زاوية في المنطقة علامات و لافتات تحمل أسمها. فقد ملكت الأسواق التجارية، المصانع، الدكاكين و المحلات و قاعات السينما و المسارح، و وكالات شركات السفريات و النوادي الرياضية و غيرها. تجاوزت عملياتها الأقتصادية ولاية قونية الى 22 ولاية أخرى. و أضحت المنافِسة الرئيسة للصناعيين في أسطنبول مثل أكزاسي باشي (التي أشرفتُ شخصيا على أعمال السيطرة النوعية لبعض من منتجات هذه الأخيرة قبل عدة سنوات ممثلاً لشركتنا في كاليفورنيا). و لهذا السبب أصبحت المنافسة سببا رئيسا لتدخل السياسة في الأقتصاد.
كان العدد الظاهري لمالكي كومباسان هولدينك هو أربعين فقط على الورق، و لكن هناك لائحة تضم 25 ألف من المساهمين لم و لن تعلن أسماؤهم أبدا، و أن أكثر من نصف هؤلاء كانوا من العمال العاملين خارج تركيا. و بلغت حصصهم من الأموال التي يرسلونها الى المنظمة في تركيا أكثر من 7.7 ترليون ليرة تركية في السنة حسب قيمة الليرة في التسعينات.أما مجموع ما كانوا يرسلونه الى البلد فقد بلغ بليون دولار في السنة.
و تملك المنظمة أضخم رأسمال في منطقة الأناضول و يعمل 22 ألف شخص في منشأتها المكونة من 30 مصنع و أكثر من عشر شركات تنتج الورق و إطارات السيارات و مواد غذائية و أنسجة و غيرها.
كان يتم جمع المال من العاملين في الخارج بالإعلان عن ذلك في المساجد. ففي ألمانيا مثلا، و مقارنة بنسب الفائدة و الربح فيها، متناسين تحريم الربا، كانت كومباسان هولدينك تعطي للأتراك العاملين في ألمانيا أرباحا عالية ترد من تشغيل أموالهم في تركيا. و ترسل الأموال المتجمعة عن طريق وسطاء الى تركيا. و بما أن طريقة التحويل غير قانونية في تركيا، فقد ألقت السلطات الأمنية القبض على أعداد من الوسطاء العاملين للمنظمة المعنية في مختلف المطارات التركية و صادرت منهم ملايين من الماركات الألمانية و كميات ضخمة من الذهب. و على ضوء هذه التجاوزات فتحت السلطات التركية ملفات النحقيق مع المنظمتين الأقتصاديتين الأسلاميتيىن كومباسان هولدينك و بييمباش هولدينك.
النقشبندية و القادرية و شركة (كومباسان هولدينك)
تملك كل من الطريقة النقشبندية و الطريقة القادرية المنظمة القابضة (كومباسان هولدينك) التي كانت تملك مطبعة لطباعة الكتب و المطبوعات الأسلامية المختلفة مع أستديو لإنتاج أفلام الفيديو الخاصة بالدعوة الأسلامية. و يشتغل في المطبعة و الأستوديو أعضاء منتخبون من الطريقتين المذكورتين في أعلاه. و للمنظمة أيضا مخازن ضخمة لعرض البضائع و بيعها في منطقة الأناضول تعمل فيها نساء محجبات لبيع آلاف الأصناف من المأكولات الغذائية الطازجة و المعلبة. و أن الشيء الوحيد المفقود فيها هو المشروبات الكحولية.
عملت كومباسان هولدينك في 1998 على تحقيق أكبر أحلامها، و لكن بهدوء و روية، لبناء مدينة صناعية و سياحية ضخمة في منطقة قاسم قرة بكر التي تبعد 80 كيلومترا عن مدينة قونية. و حسب المخطط ستحوي هذه المدينة على ثلاثة معاهد عالية للتعليم، مستشفى ضخم، فندق من خمس نجوم و مستودعات ضخمة لخزن ما تنتجه مصانعها. و توفر المدينة الصناعية – السياحية خمسة ألاف فرصة عمل و قدرت كلفة بنائها 500 مليون دولار.
و بتحقيق هذا المشروع ستكون كومباسان هولدينك ليست كبرى شركات الأناضول فقط، بل كبراها في عموم تركيا.
و أما النتيجة النهائية لكل هذه المخططات فهي جذب أصوات الناخبين البسطاء في القرى و الأرياف في الأناضول لصالح الجماعات الأسلامية.
شركة (بييماش هولدينك) و حزب الرفاه
مدت هذه الشركة أذرعها الأخطبوطية في منطقة يوزغات، و كلما كبرت و أتسعت، كبر و قوى حزب الرفاه في الوقت نفسه.
في عام 1989 كانت بييمباش هولدينك (القابضة) مؤسسة تضم ثلاث شركات صغيرة، و بعد سنتين، اي في 1991، نال حزب نجم الدين أربكان في يوزغات خاصة، و عموم تركيا عامة، المركز الخامس في الأنتخابات بنسبة 12% من الأصوات و ذلك بفضل هذه الشركة القابضة.
و في 1995 اصبح الرفاه الحزب الوحيد الذي نال أكثر شعبية في البلد حائزا على 36% من أصوات يوزغات بعد أن غدت بييمباش هولدينك أكبر مؤسسة في تلك المنطقة بثلاثين ألف مساهم. و كالعادة، كان أكثر من 80% من المساهمين من العمال الأتراك من خارج تركيا، و كانت تتبع لها 24 شركة مختلفة و 20 مصنعا و تملك في الوقت نفسه سلسلة مكونة من 22 متجرا ضخما في كل من تركيا و ألمانيا يتسوق منها 300 ألف شخص مزودون ببطاقات التسوق و يعمل فيها 5000 آلاف موظف.
ترى بصمات أصابع الطريقة النقشبندية واضحة على هذه الشركة القابضة التي تعمل حسب التعاليم الأسلامية. فهي تملك محطات للإذاعة و التلفزة التي تبث منها برامج دينية دوما. و كما هو الحال مع كومباسان هولدينك، فإن بييمباش هولدينك تضع الدعوة الأسلامية في أعلى أولوياتها.
و في منتصف التسعينات أصبحت كلتا الشركتان القابضتان متهمة بتُهَمَة التمويل المادي للأسلام السياسي. و تنالان في الوقت نفسه دعم الأسلام السياسي المتمثل بالأئمة و الخطباء و أصحاب الطرق الصوفية في مجال تنافسهما الأقتصادي لكونهما تمثلان التيارات الأسلامية المدنية. و تتمثل رغبة هؤلاء جميعا في تأسيس دولة حديثة مختلفة عن غيرها ذات توجهات أسلامية محافظة. و تطرح علامة الأستفهام في هذا المجال بالذات:
هل أن هاتين الشركتين تهتمان بالمسائل الأقتصادية كتوفير العمل في الداخل و الخارج لأغراض الربح و الخسارة، أم تهتمان بالمسائل الدينية و السياسية؟
أصبحت هاتان الشركتان هدف العسكر في تركيا بوضعيهما المشكوك فيهما... إذ يمثل العسكر الحرس القديم نفسه و المتجدد دوما و المحافظ على الإيديولوجية العلمانية الكمالية. و على هذا الأساس أمَّمت الدولة مبلغ 15 تريليون ليرة تركية تملكها كومباسان هولدينك و قامت بأستجواب كبار العاملين فيها عن الأعمال التي تجري في الظلام – حسب تعليق السلطات – عن الحادثة.
و أتخذت قيادة الجيش التركي خطوة أخرى ضد من أسمتهم بـ (الأنفصاليين و الرجعيين الأسلاميين في البلد) و صرَّحت أن الخطر الأول و الرئيس الذي يهدد تركيا يأتي من الحركات الأصولية الأسلامية و ليس من ... حزب العمال الكردستاني. فتغيّرت سياسة تركيا من البحث الدائم عن أعداء خارجيين يحيطون بها الى الأنشغال بأعداء الدولة الداخليين...
آرا دمبكجيان
1108 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع