تأثير الصراع العلماني – الديني في تركيا

                                                    

                                  آرا دمبكجيان

في نهاية الحرب العالمية الأولى سقط "الرجل المريض" صريعا و أستسلم الى مشيئة الحلفاء. فقد وجدت الأمبراطورية العثمانية الواسعة نهايتها و تقلصت حدودها، فاستعادت شعوب عديدة أراضيها واستقلت بعد زوال نير الأستعمار التركي.

و فجأة قام من تحت أنقاض هذه الدولة عسكري بأسم مصطفى كمال في التاسع عشر من شهر أيار 1919 و الذي كان قد أختفى سابقا في منطقة صمصون.
كان مصطفى كمال و أتباعه مؤمنين أشد الإيمان أن لا العثمنة و لا الأسلام و لا الحركة الطورانية قادرة على بناء الأسس اللازمة و المتينة لبناءٍ يستندون عليه لإبقاء شعوب الدولة السابقة تحت قهرهم و سيطرتهم و أخضاعهم ثانية.
كان بناء حتى كيان سياسي صغير حلما صعب المنال.
وضع الأنهزام التركي المذل في الحرب الحقائق أمام الجميع، فالعثمنة كمبدأ و عقيدة قد أنهار بدوره في الواقع التركي.
كان أمام مصطفى كمال ثلاثة حقائق أساسية عليه إتباعها لتبديل العثمنة و إلباسها ثوبا جديدا و بصورة نهائية فتصبح الحلة الجديدة أساسا لأستحداث كيان جمهورية تركية حديثة.
و أما تلك الحقائق الثلاث الأساسية في كيان تركية الحديثة هي:
1-تأسيس كيان قومي راسخ و مناسب للوضع الجديد،
2-تبنّي نهج سياسي مناسب للكيان القومي المنشود،
3-البدء في قيام إصلاحات جذرية و ملِحَّة.
أسباب نجاح الحركة الكمالية
لقد نجحت الحركة الكمالية لأنها أستطاعت أن تجد الحلول للنقاط المذكورة في أعلاه و ذلك بإتباعها ما دعيت آنذاك ب (إصلاحات أنقرة) و تبنِّيها للنقاط المبدئية الآتية و ما نتج عنها من خطوات:
حوَّلت تركيا الأناضولية الى كيان له قيمة غير قابلة للنقاش في الشخصية القومية التركية.
و لأجل إنجاح المهمة أبتدأت حركة الإصلاحات من أعلى الهرم نحو القاعدة.
و على هذا الأساس أُلغيت الخلافة الأسلامية في 4 آذار 1924. و في اليوم نفسه أنهى نواب (الأتحاد الملّي) وجود الوزارات التي تتعاطى بالأمور الدينية و الخيرية الى (إدارة أوقاف) تديرها مديريات صغيرة. فأصبح واضحا أن هذه القرارات كانت قد أتُخذت لإنهاء سلطات المؤسسات الدينية التي كانت مرتبطة روحا و جسدا بالماضي. و من دون مضيعة في الوقت، و في التاريخ نفسه صدرت أيضا قرارات تخص المؤسسة التربوية ذات العلاقة بعامة الناس، فدخلت جميع المدارس تحت رعاية وزارة الإرشاد، فأغلقت المدارس الدينية و فرضت إدارة السلطة على المدارس كافة و أُخرجت المواضيع الدينية من المناهج الدراسية و عوِّضت هذه كلها بمواضيع دراسية جديدة. و تبعت هذه أستحداث أساليب دراسية حديثة، و في آخر الأمر خلقت الظروف المناسبة لتحويل التربية المدرسية في تركيا من دينية الى دنيوية.
وعلى الرغم من الأساليب التي أتخذها الكماليون، أستمر المتدينون الأسلاميون في التصدي الى إصلاحات السلطة، حتى في الوقت الذي كانوا في وضع لا يحسدون عليه بسبب ضياع نفوذهم و أفول نجمهم، مما أضطرت السلطات التركية الى التصدي بقوة لما تبقى من المؤسسات الدينية محاوِلة إزالتها بالكامل. فقد أتخذت في عام 1925 قراراً بإنهاء وضع الدراويش، و من ثم أغلقت التكايا و الزوايا. إضافة الى كل هذا مُنِع تداول الألقاب الدينية، و مُنِع رجال الدين من لبس اللباس الخاص بهم ما عدا عدد قليل جدا من موظفي الدولة منهم. فكانت التنتيجة أن خسر الشيوخ و الدراويش مراكزهم ... فأنتهى نفوذهم على أتباعهم... و في الوقت نفسه، و بعد أن ضعفت فيه مراكز رجال الدين في مختلف مجالات الحياة العامة أستمرت الحكومة الكمالية في العمل الدؤوب على تغيير المناهج الدراسية حسب الخطة الموضوعة سلفا.
كانت عملية تغيير الأبجدية بكاملها الخطوة المهمة الأولى. ففي التاسع من تشرين الثاني 1928 أستُبدِلت الأبجدية العربية باللاتينية و تبع هذه العملية زمنا من الصراعات الطويلة بين مريدي الأبجدية اللاتينية و رجال الدين الأسلامي.
إضافة الى ما جاء كان للقرار الذي أتُّخذ في 22 آذار 1926 في السياق العلماني – الدنيوي الجديد للدولة أن مُنح حق التدريس في المدارس الى المدرسين من حملة الشهادات فقط. و بهذه الطريقة كانت الحكومة الكمالية تريد حلحلة أسس المتدينين في القرى حيث كان الملالي و الشيوخ مستمرين على تدريس الطلبة المناهج الدينية المتزمتة و الأصولية نتيجة للنقص في عدد المدرسين.
و من أواخر القرارات التي ألخذت في التقدم نحو علمنة الدولة هو قرار (المجلس الملّي الكبير) في 10 نيسان 1928 بخصوص تلك المادة من الدستور التركي التي تذكر أن "الأسلام هو الدين الرسمي لتركيا". بالعملية هذه فصلت الحكومة التركية الدين عن الدولة. في الوقت نفسه أستُبدل قَسَم اليمين الديني للنواب و رئيس الجمهورية بقَسَم اليمين المدني. و هكذا ألغى الكماليون نهائيا تأثير الدين على أمور الحكومة التركية.
ثمة طائفة تقول أن مصطفى كمال أتجه نحو العلمنة و التغريب بتأثير من الماسونية العالمية لكونه منتميا اليها. و نتيجة لدراساتي و بحوثي حول هذا الموضوع تبيَّن أن كمالاً غضب و أغلق بالفعل المحافل الماسونية في تركيا و شرَّد أعضاءها عندما رفضوا طلبه لمنحه لقب (أستاذ المشرق الأعظم).
و على الرغم من كل ما جاء في أعلاه في نزاع الدولة ضد رجال الدين، لم تتهجم الحكومة التركية إطلاقا على الدين الأسلامي ... و حول فصل السلطة الأسلامية عن السلطة المدنية الحكومية كتبت جريدة "إقدام" على صفحاتها: "أستنادا الى تلك الحقيقة أن الثورة التركية تفصل الدين عن الدولة، يجب ألّا نتصوّر على الإطلاق بأننا نسير نحو الإلحاد..."
الأستمرار في تطبيق العلمنة
كانت هناك حقيقة واحدة و هي أن تطبيق عملية العلمنة كانت تسير بخطى بطيئة جدا، فالكماليون لم يستعجلوا في أتخاذ القرارات المتعلقة بالأمور الدينية لعلمهم أن التقاليد الأسلامية قد غرزت جذورها عميقا في قطاعات الشعب المختلفة. أخذت الحكومة هذه الحقيقة بعين الأعتبار عندما منعت الدراسات الدينية في المدارس، و لكنها في الوقت نفسه، سمحت بتدريس الدين في مدارس القرى و الأرياف. إضافة الى هذا، أقترحت وزارة الأرشاد توزيع الكتب الدينية على تلك المدارس و على أساس التنازل المتبادل بين الحكومة و رجال الدين، فأقترحت الجهات الرسمية المسؤولة في الدولة أستحداث (مديرية الأمور الدينية) بدلا من وزارة الأمور الدينية الملغاة. و كان الواجب الرئيس لتلك المديرية فتح المدارس الخاصة لتخريج الأئمة و العاملين في الخدمة الدينية.
و على هذه الأسس كانت تغلق المدارس الدينية القديمة من جهة و تفتح المدارس الحديثة لتخريج الأئمة من جهة أخرى. ففي سنة 1924 كانت هناك 29 مدرسة لتخريج الأئمة و عدد طلابها 1045. و في السنوات اللاحقة قلّص عدد المدارس الدينية بشكل ملحوظ جدا، فابتداءا من سنة 1927 بقيت هناك مدرستان فقط ... و لكنهما أُغلقتا في 1930.
و في السنة الدراسية 1932-1933 أستحدثت تسعة صفوف لدراسة القرآن و قراءته باللغة التركية بعد الترجمة.و في سنوات 1940-1941 كان هناك 655 صفا يعمل فيها 68 مدرسا و 1369 طالبا. و في عام 1943 أفتتحت جامعة أسطنبول قسما جديدا للدراسات الفقهية. و في السنوات التي سبقت الحرب العالمية الثانية، و في أثنائها، زاد نشاط رجال الدين في مطالبتهم بتدريس المناهج الدينية في المدارس.
الأنحراف الأول
في الحقبة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية بدأ "حزب الشعب الجمهوري" الحاكم في أيام الرئيس عصمت إينوينو الأنحراف عن المبادئ الكمالية. و في سنة 1947 أسس الحزب نفسه جماعاتٍ كانت تنادي بشعارات أسلامية من أجل الحرية المطلقة للإيمان الديني في الوقت نفسه يقدم الحزب التنازلات المؤثرة الى رجال الدين. و على سبيل المثال لا الحصر و في سنة 1949، و قبل وصول الحزب الديمقراطي الى الحكم بعام واحد، أُدخِلَت مادة الدين في مناهج التدريس. و قد زاد نشاط رجال الدين في البلد بشكل ملحوظ، و خاصة في المناطق القروية، بسبب تشجيع الطبقة الحاكمة للدين، فرفع الملالي و الشيوخ الأُميون أصواتهم ثانية و تمكنوا من طرد المدرسين الحكوميين من قراهم، و أفتتحوا في الوقت نفسه مدارس خاصة لتخريج الأئمة... و تحت إشراف وزارة الأرشاد نفسها بدأت في مدن أنقرة، أسطنبول، قيصرية، طرابزون و غيرها عمليات تحضير مدرسين لتدريس الدين الى الطلبة الصغار، فأصبحت دراسة مادة الدين إجبارية للصفوف المنتهية سنة 1956.و من الجدير بالذكر أن الحزب الحاكم لم يوسع نشاطه في توزيع الكتب الدينية فقط، و لكنه موَّل العملية من ميزانية الدولة.
أشتد نشاط المتدينين الأتراك و الفئات ذات الأتجاه اليميني بعد أن لمسوا موقف الحكومة الإيجابي فبدأوا بالمطالبة بإعادة المحاكم القائمة على الشريعة الأسلامية من جديد بعد أفول نجمها لربع قرن. و من ضمن مطاليبهم كانت إعادة حق تعدد الزوجات، و أكثر من ذلك بدأت الأصوات تعلو في الصحف اليومية لإعادة الخلافة الأسلامية من جديد. و نتيجة لكل تلك الضوضاء رجع المتدينون في القرى الى الأبجدية العربية، و قامت الجهات الدينية بطبع القرآن باللغة العربية، و تحجَّبت النساء، ليس فقط في القرى، بل في المدن أيضا. و مارس القرويون بالدرجة الأولى تعدد الزوجات. في الوقت نفسه زاد البكتاشيون و المولويون و النورجيون من نشاطاتهم الدينية في المناطق القروية.
في هذه الأثناء، أي وقت الأنحراف عن المبادئ الكمالية، كان العسكر الموالي لتلك المبادئ، ينظر الى مجريات الأمور بعين الحذر و الترقب...
وُجِّهت الضربة الأولى الى المتدينين الجدد في 27 أيار 1960 عندما أُطيح بحكومة عدنان مندريس...فسيطر العسكر على أمور الدولة.
بدأت الحكومة التركية الجديدة المؤقتة (لجنة الوحدة الوطنية) باتخاذ عدد من الأجراءات المتشددة لوضع حدٍّ لأعمال (الجهات الرجعية)، حسب الوصف الحكومي الرسمي. و صدر قانون جديد يمنع الأحزاب بموجبه أستغلال الدين في الأعمال السياسية. إضافة الى هذا، منع رجال الدين من القيام بالدعوة الأسلامية. و بهذه الطريقة قام العسكر بدور حارس الدعوة الكمالية و التي تركزت على العلمانية التامة.
و في السنوات اللاحقة غيَّر رجال الدين و المتدينون من نهجهم القديم في الكفاح و النضال ضد التوجهات العلمانية للحكومة، فدخلوا في مرحلة جديدة من المعارضة على المدى المستقبلي. أصبحت التوجهات الرئيسة للمعارضة تأسيس أحزاب أصولية دينية بدأت بـ "النظام الملّي" و أستمرت في طريقها بـ "السلامة الملّية" و وصلت الى "الرفاه"، فبدأت مرحلة جديدة في تهديد النهج العلماني لتركيا.
يعود النجاح المؤقت لتلك الأحزاب الدينية الى قيام عدد من الحكومات المتعاقبة بغض النظر عن التشديد على المتدينين أحيانا للحصول على نتائج أنتخابية إيجابية لصالحها. فعلى سبيل المثال قام سليمان ديميريل في أثناء ترؤوسه الوزارة، و هو المشهود عنه بأنه من أكبر المنادين بتطبيق النهج العلماني و الدفاع عنه، بتشجيع أستحداث مدارس لتخريج الأئمة الخطباء، و بطريقة غير مباشرة. و كان الهدف الرئيس من وراء تلك المدارس تحضير أئمة مساجد و رجال دين خطباء فيها. و لكن، و مع مرور الوقت، أبتعد هؤلاء الخريجون عن الخط المرسوم لهم. فبدأوا بالتغلغل في الدوائر الحكومية كالشرطة و الجيش. فقد وصل عدد الأئمة – الخطباء من أولئك الخريجين الذين قدموا الى أكاديمية الشرطة الى 12,300 شخص، و يمثل هذا العدد 40 بالمائة من مجمل عدد المتقدمين اليها، في الوقت الذي كان هناك 8000 منهم قد تخرجوا أصلا من تلك الأكاديمية. و كان هذا التغلغل قد بدأ في عام 1974.
و في الأنتخابات النيابية في 1995 وضع الأنتصار الساحق لحزب "الرفاه" مسألة المدارس الدينية على رأس قائمة هموم العلمانيين، إضافة الى قوة أقتصاد الأسلام السياسي الذي لعب دورا هاما في تلك الأنتخابات. و كانت قوة ذلك الأقتصاد تتمثل في مؤسستين لهما شعبية واسعة ... (كومباسان هولدينك) و (ييمباش هولدينك) ... أي شركات قابضة.
و طالعت الأنباء الواردة من العاصمة التركية آنذاك أنه صدر حكم بالسجن سنة واحدة على رئيس الوزراء السابق نجم الدين ارباكان "لأستغلاله المشاعر الدينية ضد علمانية الدولة"، حسب ما جاء في حيثيات الحكم. و أفادت المصادر المطلعة في أنقرة أن ارباكان، الذي كان يمثل شريحة المتدينين الأسلاميين، اذا أراد أن يستأىف الحكم الصادر بحقه عليه أن يقدم طلبا يوافق عليه المدعي العام الذي يمثل شريحة العلمانيين و الذي يعتبر من ألد أعداء الدينيين.
و يستمر الصراع العلماني – الديني مؤثرا على واقع الحياة في تركيا...

للبحث صلة

آرا دمبكجيان

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1105 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع