صورة الإسلام على الأرض كما يعرضها المسلمون

                                             

                         د.محمد عياش الكبيسي

من جوار بيت الله الحرام أكتب هذه الخواطر والملاحظات وأنا أنظر إلى أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- في صورتها المصغّرة وهي تعبّر عن ذاتها وطريقة تفكيرها ونظرتها للدين والكون والحياة والإنسان.

هنا يأتي المسلمون من كل بقاع العالم ليعرضوا صورتهم كما هي في معرَض دائم دوام هذه الأرض التي نعيش عليها في ليلها ونهارها وصيفها وشتائها، والعالم يراقب هذه الصورة ليقرأ من خلالها المخرجات العملية والواقعية لمنظومة القيم الإسلامية وتأثيرها في بناء الإنسان وصناعة المجتمعات.

وهنا تأتي أهميّة قراءة المسلمين لهذه الصورة التي يعرضونها للعالم في أقدس مكان يتواجدون فيه، وهي الصورة التي يفترض أنها الأقرب للنموذج الذي يسعى الإسلام لتحقيقه على هذه الأرض. إن قياس المبادئ بمخرجاتها العمليّة يمثّل اليوم نهجا علميا رصينا ومتّبعا في فحص النظريّات وقياس الأداء للمؤسسات المختلفة، ولم يعد العالم اليوم مقتنعا بالنوايا الطيّبة، أو الشعارات المعلنة، ولا حتى بمقولة (الدين شيء والمتديّنون شيء آخر)، لأن الدين الذي لا يستطيع أن يؤثّر في أتباعه لا يمكن أن تقوم به حجة على الآخرين، أو أن يمثّل طريقا مقنعا لخلاصهم وتحقيق أهدافهم.

إن الإسلام قدم نموذجه العملي الأمثل في شخص النبيّ الكريم -صلى الله عليه وسلم- حيث (كان خلقه القرآن) وكان هو الرحمة كما أن رسالته هي الرحمة (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)، ثم ثنّى بالمجتمع الإسلامي الأول كنموذج حيّ لطريقة الإسلام في صناعة المجتمعات فقال: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه) (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون)، ثم جاء الأمر الإلهي بتقوى الله وحده مقرونا بالانتماء إلى هذا النموذج (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين)، والانتماء قد يصل إلى التأسّي والاقتداء (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه) وبهذا يكون اتباع المؤمنين الصادقين كأنه اتباع للدين نفسه.

ولكي لا يُظنّ أن الإسلام يسعى لتحويل المجتمعات البشرية إلى مجتمعات ملائكية راح بالقدر نفسه يسجّل الحالات التي تحتاج إلى تصويب وتعديل وربما إلى توبة وإنابة (حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبّون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثمّ صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين) (وعلى الثلاثة الذين خُلّفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنّوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا).

إن الإسلام يعلن من خلال هذا كلّه أن الدين لا بد أن يتمثل في واقع ملموس يراه الناس ويتعاملون معه، وهو في الوقت ذاته يؤكّد أن هذا الواقع مهما بلغ فهو ليس معصوما من الخطآ أو مبرّأ من النقص، فصورة المثال أو الكمال ستبقى سقفا مرتفعا يتّسع لعمليات الإصلاح والتطوير والمنافسة المستمرّة حتى يرث الله الأرض ومن عليها (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون).

إننا حينما نتكلم عن المجتمعات لا نتكلم عن خير محض أو شرّ محض، بل نتكلم عن أمر نسبي في حجم الخير وفي حجم الشرّ، وفي حجم التمثيل العملي للمبادئ والقيم النظرية، وهذه النسبية نصّ عليها القرآن في تقويمه للمجتمع المسلم فقال عن المقرّبين (ثلّة من الأولين وقليل من الآخرين) وقال عن أصحاب اليمين: (ثلّة من الأولين وثلة من الآخرين)، وبهذا السياق يأتي حديث البخاري: (خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)، وهذا المبدأ يطبّقه الإسلام حتى حينما يحاكم المجتمعات الأخرى (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤدّه إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤدّه إليك إلا ما دمت عليه قائما) ويأمر المسلمين أن يأخذوا به حتى مع أعدائهم (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنّكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى)، ثم يأتي القانون الكلّي في الحكم على المجتمعات والأفراد (ليس بأمانيّكم ولا أمانيّ أهل الكتاب من يعمل سوءا يُجزَ به) (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى).

ووفقا لكل ما تقدّم فإن قياس المبادئ بمخرجاتها العملية قياس صحيح مع مراعاة هذه النسبية في الأداء والتفاوت المعهود والمتوقّع بين الصورتين الواقعية والمثالية بشكل عام، وإن المؤمنين يتحمّلون مسؤولية كبيرة وخطيرة في طريقة تمثيلهم لما يؤمنون به، ولذلك لمّا شكا الناس طول صلاة معاذ بهم الطول الذي يشقّ عليهم قال له الرسول -صلّى الله عليه وسلّم- : (أفتّان أنت يا معاذ)، فتصرّف معاذ -رضي الله عنه- ليس خطأ شخصيا مجرّدا بل هو خطأ قد يؤدّي إلى فتنة الناس عن الصلاة وعن الدين الذي يحمله، وقد أكّد هذا المعنى بحديث آخر: (أيها الناس إن منكم لمنفّرين)، وإذا كان هذا في تطويل الصلاة فما بالك بمن جعل التديّن قرينا للشقاء والدمار والجهل والتخلّف؟

أما ما يردده بعض المسلمين اليوم (أن المسلمين لا يمثّلون الإسلام) و (أن المسلمين شيء والإسلام شيء آخر) فهو كلام مجمل وغير مقنع وفيه رغبة بالتنصّل عن المسؤولية مع ما فيه مما يُشبه الاعتذار، لكنه اعتذار لا يُلزم الآخرين، وأذكر بهذا الصدد أن أحدهم سأل عن حكم الكافرين الذين لم يسلموا مع أن الدعوة قد بلغتهم؟ فقلت له: ينبغي أن نتأكّد قبل أن نحكم عليهم أن الدعوة قد بلغتهم بصورة صحيحة وليست معكوسة.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

974 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع