سهى بطرس قوجا
أكيد ذاكرة الزمن تضم الكثير من صفحات تاريخ العراق المشرف والمشرق ولا تزال تخزن الكثير والكثير مما يمرُّ عليها، ليس فقط أحداثًا ومواقف بل وشخصيات كان لها مسيرتها والتي أتضحت من خلال ما بصمته أنها تستحق الانحناء من أجلها والتذكير بها من أجل أن لا يطمر الزمن ذكراهم وأن لا يتناسىّ عملهم وأن تكون دروسًا لغيرهم السائرين على نفس الدروب.
والمحطات التي يحفل بها تاريخ العراق كثيرة، سنتوقف قليلا عند أحداها لنستذكر أحد أبرز الشخصيات التي كان لها دورًا مشرفًا في إعلاء وإبراز اسم العراق في فترة الحكم الملكي، أنه ( حسقيل ساسون / وزير المالية العراقي عام 1921م).
يعد حسقيل ساسون أشهر وأنزه وزير مالية عراقي في تاريخ الحكومات العراقية المتعاقبة، هو أول وزير مالية أسهم بشكل كبير في وضع الأسس الصحيحة والسليمة لقيام الاقتصاد العراقي وبناء ماليته وفق نظام دقيق جدًا. قال عنه أمين الريحاني:" أنه الوزير الثابت في الوزارات العراقية، لأنه ليس في العراق من يضاهيه في علم الاقتصاد والتضلع في إدراك الشؤون المالية".
ولادته وتعليمه وعمله:
حسقيل ساسون ( 1860 – 1932) هو عراقي يهودي ولد من عائلة يهودية بغدادية اشتهرت بالتجارة في بغداد كانت تسمى بــ ( روتشيلد الشرق)، كان لديه ( 3 أخوة و 4 اخوات)، أما والده فقد كان من رجال الدين المتفقهين في الشريعة الموسوية. ساسون كان غير متزوج وكان يقطن في بيت فخم على شاطئ دجلة قرب غرفة تجارة بغداد. أما دراسته فقد تلقى تعليمه الابتدائي في مدرسة ( الاليانس) ثم ذهب إلى اسطنبول للدراسة عام 1877، بعدها ذهب إلى لندن ليجتاز امتحان المتروكوليشن Matriculation ومن ثم إلى فيينا ليدخل كلية الحقوق ويحصل على الشهادة. ومن فيينا عاد إلى اسطنبول لينال شهادة المحاماة من الدرجة الأولى من وزارة الحقانية في الأستانة. ساسون برحلاته الدراسية المتعددة هذه أتقن العديد من اللغات وامتلك مكتبة فخمة جمع فيها الكثير من الكتب المتعددة، لكن فيما بعد استولت عليها الحكومة العراقية وأدعتها ضمن مكتبة المتحف العراقي عام 1970م.
في عام 1885م عاد إلى بغداد ليعين ترجمانًا لولاية بغداد ثم انتخب نائبًا في مجلس النواب التركي الأول عام 1908. شغل ساسون منصب وزير المالية خمسة مرات في فترة الحكم الملكي، حيث عين أول وزير مالية في حكومة السيد عبد الرحمن النقيب (الحكومة المؤقتة 1918 – 1921)، كما وأنتخب لوزارة المالية في وزارة النقيب الثانية 1921، والثالثة، ووزارة عبد المحسن السعدون الأولى، وكذلك في وزارة ياسين الهاشمي.
عرف عن ساسون أنه كان متشددًا في محاسبة الموظفين وحتى المسؤولين، حتى الملك فيصل الأول والحكومة البريطانية، كان لا يترك لهم ثغرة يسيئون فيها لمالية البلاد، ومن هنا جاءت الكلمة المترددة على ألسنة الكثير من العراقيين ( يحسقلها .... تريد تحسقلها عليّ!).... (بمعنى يتشدد في المحاسبة). كما يُروى عنه بأنه كان سريع الغضب مع الموظفين إذا وجد منهم أي تهاونًا أو تقصيرًا، وهنا يذكر (مير بصري) أن (صفوت باشا) حدثه حينما كان ناظرا للخزينة الملكية الخاصة عن نفقات فصل البريد والبرق المخصصة للديوان الملكي عام 1925، أنها نفذت قبل أشهر من ختام السنة، فقد كانت الحرب الحجازية النجدية قائمة والبرقيات ترسل يوميًا من البلاط الملكي العراقي إلى (الملك علي) في الحجاز لمعرفة الموقف الحربي، فكتب الديوان الملكي إلى وزارة المالية يسأل الموافقة على نقل مبالغ من فصل أخر في الميزانية المصدقة إلى فصل البريد والبرق تلافيًا للمصروفات الطارئة. وهنا قال ( صفوت باشا):" دخل على وزير المالية ساسون أفندي ثائرًا منتقدا كثرة النفقات ومعترضا على نقل الاعتماد، فحاولت تهدئته وقلت له: أن جلالة الملك في الغرفة المجاورة! وفي اليوم الثاني سألني الملك: لماذا كان ساسون هائجًا بالأمس؟! وحينما أوضحت له الأمر، قال: أنهُ مبتهج ومسرور من موقف وزير ماليته وصلابته وحرصه على التمسك بالقواعد المالية والحرص على خزينة الدولة".
ومما يذكر عن ساسون أيضًا حينما كان وزيرًا للمالية، كانت هنالك مناقشة لبعض الأمور الاقتصادية في مجلس الوزراء، وكان من الطبيعي أن يتم مناقشة الأمور وطرح الآراء، قام ساسون بطرح بعض الآراء، فقاطعه ( جعفر العسكري)! فما كان من ساسون ألا أن ينتفض في وجهه ويقول له بصوت مرتفع:" أرجو يا باشا أن لا تتدخل في أمور لا علاقة لك بها، ولا تعرف عنها شيئًا، فهذه قضايا قانونية وأنت رجل عسكري".
شاعت عنه الكثير من الحكايات الطريفة ومن أشهرها ما حصل بيه وبين شركة النفط البريطانية، عندما أصر على شركة النفط البريطانية المسجلة عندئذ باسم (شركة النفط العراقية التركية) بدفع حصة العراق بالذهب (الشلن الذهبي) بدلا من ( الباون الانكليزي الورقي)، استخفوا طلبه وقتها، حيث كان الباون الانكليزي (السترلنغ) أقوى عملة في العالم، سخروا منه وضحكوا عليه وأتهموه بأنه رجل قديم الطراز! هزَّ رأسه قائلا:" نعم هكذا أنا .... سامحوني، رجل مُتحجر الفكر ومن بقايا العهد العثماني، رجاءًا ادفعوا لنا بالذهب". ضحكوا عليه و لكنهم طيبوا خاطره فوقعوا على الدفع بالذهب، لكن سرعان ما ثبت أن ساسون حسقيل كان أعلم منهم جميعا، فبعد سنوات قليلة تدهور الباون الإسترليني بالنسبة للذهب، وشركة النفط لم تجد مفراً من الدفع للعراق! كانت النتيجة أن ظل العراق يكسب ملايين إضافية بسبب تفوق الذهب على العملة الورقية الإنكليزية! ولا عجب أن أخذ البريطانيون يتضايقون من وجود ساسون على رأس وزارة المالية في كل مفاوضاتهم معها، فسعوا إلى التخلص منه حتى تمكنوا من ذلك بعد سقوط حكومة ياسين الهاشمي.
يتبين مما سبق توضيحه أعلاه بشيء من التبسيط أن هكذا شخصية تستحق فعلا أن يخلدها التاريخ. يستحق بلدنا أن يكون منها الاف النسخ من أجل أن تعيد بناءه وانتشاله من المستنقع الذي بقلة تفكير الكثيرين وصل إلى الحال الذي هو عليه اليوم! حسقيل ساسون كان أمينًا لدرجة الامانة المطلقة. كان لديه سعة من الثقافة والتفاني والجدية والتي برزت في عمله وتكونت في شخصيته القوية والواثقة، كان شريفًا ومخلصا لمهنته ووطنيا بكل ما يحمله الوطن. كان مؤمنا بإمكانية صهر جميع الطوائف والأقليات في بوتقة الوطن واعتبارها شعبًا عراقيا واحدًا. حسقيل ساسون كان رجلا يعمل من أجل الوطن وليس من أجل أن يستنزف وطنًا، وهذا هو الفرق بين ما قدمه في زمانه للعراق وبين ما يقدمه اليوم من يقود دفته باختلافهم واختلافاتهم! كان يقول:" أن الإهدار يجعل من المال سائبا، والمال السائب يعلم السرقة!"، العراق يسرق وماله يهدر والشعب يجوع وكان الله في عون الشعب المسكين.
868 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع