الدكتور مهند العزاوي*
غزو الجيوش يمكن مقاومته ، أمّا غزو الأفكار فلا ..فيكتور هوجو ابدء مقدمة مقالي المعرفي بقول الله عز وجل (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) فان العلم والمعرفة هبة ربانية يمنحها الله لكل البشر ,
وهناك من يطورها ويتفكر وهناك من يهملها ويتعثر في مسيرته المهنية او الوظيفية ويتاخر عن ركب المعرفة , يبقى الخزين الفكري ومايطلق عليه المخزون المعرفي هو المحرك الاساسي الذي يعتمد عليه الانسان ويستخدمه في التحليل والتمحيص والتتبع والتقدير والتحسب واتخاذ القرارات الهامة والمهمة في المحيط التفاعلي الوظيفي والاجتماعي , وكما قال فيكتور هوجو[1] (غزو الجيوش يمكن مقاومته ، أمّا غزو الأفكار فلا ) ولذلك التحليل هو دورة فكرية تعتمد الاداراك المسؤول والتفكير المنظم لافعال الاخرين التي تتجسد على شكل احداث وازمات وظواهر تصب في الواقع السياسي العالمي او الاقليمي او المحلي , ومهما احكم الاطراف الاخرون صناعة الاحداث وتضمينها رسائل مبهمة وعلنية , لا ان الاستباق الاحداث كوقاية والتفاعل معها كعلاج شان بشري انساني يحاكي لعب السياسة التي تتفاعل مع الاحداث, وتتعمق في مجرياتها بغية معرفة غايات ودوافع ورسائل ونتائج صناع الحدث او الازمة او الظاهرة التي برمتها تحقق التاثير في سير الاحداث وتغيير الواقع السياسي للدول والتحالفات من حال الى حال اخر يتناغم مع مصالح ورغبات واطماع صانع الاحداث احيانا او يجري ركوب امواجها .
منهجيات التحليل
يستخدم المفكرين والمحللين طرائق مختلفة كل حسب منهجيته في التحليل السياسي , على ان تتسق بالمفاهيم والآليات والمراحل الاساسية للبحث والتحليل , والبعض منهم يستخدم اساليب مبنية على الخبرة والبعض الاخر على الموروث البحثي المؤسسي , واخرين يستخدمون الطرائق العلمية , وهناك من يستخدم مختلف المنهجيات بغية الوصول للهدف التحليلي وهو ابراز الحقيقة والغموض الذي يكتنف المواقف والازمات والظواهر المتفاعلة ضمن البيئة الاستراتيجية موضوع التحليل , ولابد الاشارة ان منهجية ثابتة معتمدة في التحليل لم يتم حتى الان الاتفاق عليها , خصوصا ان التحليل السياسي كمادة نظرية فقيرة لم يرفدها المحللون والباحثون والمفكرون بتجاربهم وخبراتهم , ويرى البعض انه مهارة متقدمة لايمكن اعطاء اسرارها للاخرين , ولعل ما جاد به فكري في وصف منهجية التحليل السياسي وما يجول به العقل الناضج وفقا للاطر التطبيقية والعلمية هي:
الهندسة المعكوسة
يستخدم المفكرين والمحللين طرائق مختلفة كل حسب منهجيته على ان تتسق بالمفاهيم والآليات والمراحل الاساسية للبحث والتحليل , ولغرض الوقوف على اسلوب "الهندسة المعكوسة " وهي من تنظير المؤلف , ومن بنات افكاره , وقد استخدمه كثيرا كمنهجيته في التحليل , وهذا الاسلوب يجسد معايير الهندسة عندما تتعامل مع القيم الاساسية للبناء التي تعتمد التهيئة ووضع الاساس وتشييد البناء وصولا الى استكمال المتطلبات الضرورية للانجاز النهائي, وبذلك يتكامل البناء ويمكننا عكس هذه الفلسفة الهندسية على المشكلة موضوع التحليل ولاكن بشكل معكوس وما نطلق عليه "الهندسة المعكوسة" عندما يذهب المحلل الى جذر الازمة او الظاهرة اي يعني الاساس الهيكلي لبناء الاحداث او الازمات والظواهر , وهو بمثابة العامل الثابت لجذر الموضوع ثم التوجه من خلاله الى العوامل المرتبطة به ويمكن تبويبه بما يلي:-[2]
البحث عن الفاعل الرئيسي للحدث موضوع التحليل
التفتيش عن الدافع الاساسي للأحداث ضمن مناخ المؤثرات السياسية
ربط الحدث بالخلفيات التاريخية المشابه ونمط الاحداث المتعلقة بالظاهرة او الازمة
جمع المعلومات المتعلقة بالحدث ومن مصادر مختلفة وحسب الاسبقية
البحث عن الفرضيات وتحديد المشكلة وهي بمثابة الاساس الذي يقام عليه الهيكل
الاستقصاء عن العوامل الاساسية ( العامل الثابت) وهي بمثابة الارض
الاستقصاء عن العوامل المساعد ( المحرك الدافع) وهي بمثابة الممول
الاستقصاء عن العوامل الثانوية ( العوامل المتغيرة) وهي بمثابة المواد
الاستقصاء عن التيار الازموي وخلفياته وهو بمثابة القائم بالبناء وحرفيته
قراءة عامل الوقت وهو بمثابة المراحل الزمنية
قراءة ظواهر الحدث والتعمق في بواطنه وهذا يشكل النظر الى البناية قبل دخولها
وضع الاستنتاجات المنطقية وتمثل الدخول الامن الخروج بتوصيات ومقترحات لمعالجة الحدث او الظاهرة وهي بمثابة التقييم
ابحث عن المستفيد
يذهب المحلل دوما للبحث عن محارك الفعل وادواته ومغذياته ونتائجه , ويتعامل البعض من المحللين في الكشف الاولي عن المستفيد وكما تقول القاعده الفقهية في التحليل والبحث (( ان غاب الفاعل ابحث عن المستفيد )) وفي ظل التطور التقني واتساع وانتشار وسائل الاعلام وادوات التضليل يتم ممارسة التضليل والتمويه والتلاعب لاخفاء الفاعل الحقيقي الداعم للاحداث او الازمات , ولكن عندما تطوع النتائج وتقارنها وتقاربها مع الاهداف المحسوسة والمعلنة للاطراف الفاعلة فيمكنك الوصول مبدئيا الى المستفيد, والذي وفقا لنمط سلوكه السياسي السابق قد يقترن الفعل به وقد لايكون هذا الطرف داعما بل مستفيدا ويركب موجة الاحداث لاحقا .
ابحث عن صانع الحدث
كثيرا مانشاهد احداث دراماتيكية عنيفة تتسق بالارهاب وسرعان ما يشير المسؤول او المتحدث الرسمي او بعض المحللين الى جهة ما لدوافع سياسية او ايديولوجية , وفي الحقيقة ان بعض الاحداث والكثير منها هي صناعة منظمة مرتبطة بسير الاحداث والمتغيرات والمواقف السياسية , وشخصيا اردد عبارة كمنهج لي في التحليل ( عندما يختفي صانع الحدث انظر المردود لمن) وهناك الكثير من الاحداث الغرض منها الضغط السياسي لاجبار الطرف المستهدف الرضوخ لمطلب ما او لاشاعة الاضطراب الامني الذي يفشل انجاز دولة او حكومة ما , ويرافق هذه الاحداث حزمة من التشويش المنظم لصرف الانظار عن الفاعل الحقيقي , وعلى سبيل المثال عندما نراقب الايام الدامية في العراق في حقبة الحكم مابعد الحرب الطائفية 2006 كانت وسائل الاعلام والمتحدثين يخرجون فور وقوع التفجيرات وينسبونها لجهة ما ضمن قائمة الفوبيا , ويجزم المتحدث انها سيارة مفخخة او حزام ناسف , رغم ان لحظة وقوع الحدث لايوجد من يراقب ويحلل المجريات , ولم تسند التصريحات بافلام توضح الفاعل كان تم تصويره بكاميرات مراقبة او ماشابه ذلك , ويذهب الاعلام لتصديق التصريحات ويروج لها , والمحلل الناجح يجمع الخيوط ويبحث عن الهدف من المستفيد من تلك العمليات الارهابية لدواعي سياسية فردية او حزبية او اقليمية خارجية توظف هذه الاحداث لسير نشاطها السياسي المعبر عن فلسفة ارهابية "فجر تسد" كظاهرة امتدت عقد كامل .
هناك منهجيات اخرى مدرجة في كتابي مهارات التحليل السياسي الذي الفته عام 2012 وحدثته وفقا للمعطيات الحالية ولغرض نشر المعرفة نشرت هذه المقتطفات للفائدة العامة , خصوصا ان كتاب "مهارات التحليل السياسي" هو الكتاب الثاني عالميا بعد كتاب "روبرت دال" استاذ العلوم السياسية في الولايات المتحدة بعنوان "التحليل السياسي الحديث" , واختلف في اعداد كتابي عن المؤلف دال بمنهجية التحليل السياسي وليس التفسير الذي اعتمده , وكتابي يعتمد اطر علمية معرفية تطبيقية للتحليل السياسي تم تدريب مؤسسات وافراد به , وهو كتاب حصري وان جرى اقتباس البعض منه هنا وهناك , وسيتم نشر الكتاب ورقيا قريبا باذن الله بعد ان كان كتاب الكتروني , وخلاصة الحديث ان التحليل مهارة فكرية متقدمة تعتمد العلم والطرائق الاساسية للبحث والدراسات ولكنها بشكل اكثر سرعة ودقة وتتوافق مع الواقع .
*محلل سياسي مؤلف كتاب مهارات التحليل السياسي
الأحد، 24 أيار، 2015
[1] . فيكتور هوجو أديب وشاعر فرنسي، من أبرز أدباء فرنسا في الحقبة الرومانسية، ترجمت أعماله إلى أغلب اللغات المنطوقة. أثّر فيكتور هوجو في العصر الفرنسي الذي عاش فيه وقال "أنا الذي ألبست الأدب الفرنسي القبعة الحمراء" أي قبعة الجمال .
[2] . د. مهند العزاوي تنظير خاص بالمؤلف منهجية التحليل السياسي المعاصرة .
870 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع