إبراهيم الزبيدي
بمراجعة تاريخ العراق وسوريا والمنطقة نجد أن داعش، مهما توسع، ومهما بدا قادرا على الصمود ومقاومة الجهود العسكرية الدولية لقهره، لن يكون بأفضل حالا من دولة القرامطة التي انشقت عن الدولة الفاطمية، والتهمت ثلاثة أرباع الدولة العباسية، من البحرين ومكة إلى سوريا ولبنان وفلسطين ومصر وما جاورها، حتى أنها اقتربت من عاصمة الدولة العباسية ذاتها، وأوشكت أن تدخلها وتسقط الخليفة.
وكما هي الأوضاع العراقية والسورية اليوم بما تعانيه من تفكك وتمزق وضعف، فقد كانت الدولة العباسية قد وهنت وأصابها الترهل والفوضى والفساد، وفقدت إرادة القتال، الأمر الذي سهل للقرامطة مهمة النتشار السريع في أراضي الخلافتين، العباسية والفاطمية، وإقامة دولتهم التي لا تختلف كثيرا عن الدولة الإسلامية المعروفة اليوم بـ داعش.
ومثلما كان القرامطة يستثمرون ظلم الأمراء العباسيين الإقطاعيين الذين كانوا يسومون فلاحيهم وعمالهم سوء العذاب، يستقتطبون آلاف المقاتلين الناقمين على الخلافة وأمرائها، فإن فساد السياسيين السنة المشاركين في حكومة الاتحالف الوطني الشيعي، وأطماعهم وانتهازيتهم، من جهة، وظلم حكومة نوري المالكي، وتقاعس حكومة العبادي عن إنصافهم، من جهة ثانية وفر لداعش حواضن حميمة تمنحه السلاح والمال والمقاتلين.
ولكن النتيجة واحدة. فإن داعش، كما الحركة القرمطية، يظل نبتا صحراويا عشوائيا لا جذور له في المجتمع العربي العام، مرفوضا وملفوظا من الأكثرية في المجتمعات العربية الدينية المحافظة، ومن الكثرة المتزايدة من اللليبراليين العرب، ومن أغلب الشرائح والمكونات العرقية والدينية غير المسلمة وغير العربية في المنطقة. ومثلما سقطت دولة القرامطة في النهاية، رغم جبروتها وعنفها، فإن سقوط داعش أسهل وأقرب، وذلك بحكم عوامل عديدة محلية وإقليمية ودولية معارضة لوجوده، لم تكن متوفرة أيام القرامطة.
وهذا ما يجعل داعش أخف عبئا وأقل ضررا وأهون شرا على إيران في الرمادي من سنة أمريكا وسلاحهم الثقيل الذي تطوع الكونغرس بتقديمه لعشائرهم، دون المرور بالحكومة المركزية، وبشروط تعجيزية، إيرانيا وعراقيا شيعيا، ومنها تحجيم المليشيات، وتحقيق مصالحة وطنية حقيقية تعيد اللحمة إلى المجتمع العراقي. وهي شروط أقل ما يقال عنها إنها (خوازيق) أمريكية وسنية عراقية، وربما خليجية وتركية، لن تسمح بها الإمبراطورية الفارسية الوليدة، مهما يكن الثمن. وهنا يصبح الميل إلى تصديق نظرية المؤامرة أكثر قوة ومعقولية.
فاحتلال داعش للرمادي، بشكل خاص، ولمحافظة الأنبار بشكل عام، ينسف الجهود الأمريكية الرامية إلى فصل المحافظة عن العراق الحكومي الإيراني، وإقامة سد منيع بوجه الهلال الشيعي المنطلق من طهران إلى سوريا ولبنان عبر العراق.
كا أن دخول إيران ومليشياتها إلى الأنبار بهدف تحريرها من إرهاب داعش يظل مقبولا، ولو اضطراريا، من أمريكا وحلفائها، وظاهريا على الأقل، أكثر من دخولها لمحابرة (أهلها) السنة واحتلال إقليمهم المستقل. وهي، قبل هذا وبعده، ليست مستعدة ولا راغبة في خوض صراع طائفي توسعي جديد ومكشوف في العراق، خصوصا في أيام الفرصة الأخيرة من مفاوضات الملف النووي ورفع العقوبات، وبالتزامن مع عاصفة الحزم اليمنية التي كسرت ظهرها، بكل الحسابات.
والآن أصبح ضروريا، لتوضيح هذه المنطقة الضبابية، أن نتفرج معا على الفيلم الذي عرضته الفضائيات وهو يرينا الدبابات والمصفحات العسكرية العراقية تسابق الريح، هربا من معركة مع داعش، قبل حدوثها. فهل من يفسر لنا هذه العقدة الدرامية العصية على الفهم في هذا الفيلم المثير؟
وقد تكون مسرحية الانسحاب المفاجيء لقوات (الفرقة الذهبية) تمت، إيرانيا، من وراء ظهر حيدر العبادي، ودون علمه وإرادته. فالمعروف أن النفوذ الإيراني في وزارتي الدفاع والداخلية العراقيتين أقوى بكثير جدا من نفوذ حكومة حيدر العبادي، دون جدال. مع التذكير بأن الجيش العراقي الحالي تأسس، من بدايته، بمليشيات تم إلحاقها به، وهي في أغلبها إيرانية الهوى والولاء.
وليس مفاجئا أن يسارع علي أكبر ولايتي مستشار المرشد الأعلى إلى الإعلان عن استعداد إيران لمواجهة مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية في الرمادي، وأنه واثق من "تحريرها"، ثم يصل وزير الدفاع الإيراني، العميد حسين دهقان، إلى بغداد، بعد يوم واحد فقط من سقوط الرمادي، ليعلن هو الآخر عن الاستعداد الكامل لتقديم جميع أنواع الدعم والمساندة لتحريرها.
خصوصا وأن مجلس محافظة الأنبار الذي أضطر للانضمام لجبهة (سنة الحكومة)، صالح المطلق وسليم الجبوري وأبي ريشة وبقايا صحوات نوري المالكي، وفر لإيران وللحشد الشعبي الغطاء السني المطلوب، وذلك على قاعدة: عدو عدوي صديقي، بعد أن طردهم داعش من موطن أمجادهم وثرواتهم التي لا تعوض.
أما مجاميع الحشد الشعبي فلم تكن تنتظر إيعازا من أحد، لا من حيدر العبادي ولا من غيره، لكي تتحرك إلى الأنبار، بل تحركت فعلا وعلى الفور، لمقاتلة داعش وتحرير المدينة، وربما المحافظة كلها، وتطهيرها، ديمغرافيا وعسكريا وسياسيا، كما فعلت بتكريت، وإخضاعها لقواعد السياسة الإيرانية المطلوب توفرها في العراق لخدمة حربها في سوريا ولبنان، وربما مع السعودية والأردن، في قادم الأيام.
بعبارة أخرى. إن البيت الأبيض والكونغرس، معا، هما اللذان عجلا باحتلال داعش لمدينة الرمادي، وهما اللذان يتحملان جريرة ما سوف يحدث من انقلاب دراماتيكي في موازين القوى في العراق والمنطقة لصالح إيران.
وها هي أمريكا التي عارضت بشدة دخول الحشد الشعبي الى الأنبار، منعا لإيران من فرض هيمنتها على هذه المحافظة الأهم جدا من صلاح الدين وديالى، وحتى من نينوى، عادت، مضطرة، إلى القبول بدخول الحشد الشعبي، ولكن بشرط «خضوعه لتوجيهات الحكومة»، وهي تعرف أكثر من غيرها أنه لن يتحقق. فقوة الحشد الحقيقية أكبر من الحكومة، وهادي العامري أكثر سطوة وهيبة وقوة من رئيس الجمهورية ونوابه، ومن رئيس الوزراء ونائبيه ووزرائه العاطلين عن العمل، وحتى إشعار آخر.
1662 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع