هذه هي الخريطة...

                                            

                                 آرا دمبكجيان

                  


نشرت صحيفة "كونيش" التركية على الصفحة الأولى من عددها الصادر في يوم الأربعاء 21 تشرين الثاني سنة 2007 الخريطة الجديدة لتركيا و منطقة الشرق الأدنى كما تراءى في أحلام الفكر المريض للشوفينية التركية، مع مقالٍ تحت عنوان " الخريطة الجديدة للجمهورية التركية". و ذكر التعليق على الخريطة "هل تسأل عن الخريطة؟ هذه هي الخريطة...؟"

و تضمُّ خريطة (الدولة العثمانية الجديدة) أراضٍ واسعة من بلغاريا و اليونان من الغرب و أرمينيا من الشرق و جزيرتي قبرص و كريت من الجنوب، مع تسع محافظاتٍ سورية هي حلب، الحسكة، دير الزور، الرقة، حمص، حماه، اللاذقية، أدلب و طرسوس. و شملت أيضاً ست محافظاتٍ عراقية هي نينوى (الموصل...و قصتُها معروفة)، دهوك، أربيل، السليمانية، كركوك و صلاح الدين.
إن أحلام العنصرية التركية في منطقة الشرق الأوسط عامة، و العراق خاصة، ليست وليدة الساعة بل ترجع الى أيام سقوطِ الدولة العثمانية و بروزِ وريثتها، تركيا الكمالية. فعلى سبيل المثال، ظلَّت تركيا تطالب ب (ولاية) الموصل معتبرة أياها منطقة تركية، لأن القوات البريطانية (الحلفاء) لم تدخل الموصل في أثناء الحرب العالمية الأولى بل دخلتها بعد أنتهاء الحرب في تشرين الثاني 1918. (تحقيق كتبتُه في الموقع  http://www.algardenia.com/maqalat/7694-2013-12-08-07-35-24.html ) و ظلت تطالب الدولة العراقية علناً  بالتخلي عن الموصل بعد فرض الأنتاب البريطاني على العراق بقرار مجلس الحلفاء الأعلى في سان ريمو في 25 نيسان 1925، الى أن أنهّتْ بريطانيا العظمى الأنتداب و تم قبول العراق عضواً كامل الأستقلال في عصبة الأمم بالإجماع في 3 تشرين الأول 1932 فخفَّتْ تركيا من المطالبة العلنية...
أقامَتْ بريطانيا أحلافاً و معاهداتٍ في المنطقة لضمانِ أمنِ سياساتِها المستقبلية، فأعطت الأردن أستقلالَه بموجبِ المعاهدة البريطانية-شرق الأردنية في 22 آذار 1946، و في 15 تشرين الثاني 1946 عُقِدَت المعاهدة العراقية-شرق الأردنية، و في 11 كانون الثاني 1947 عُقِدَ الحلف التركي-شرق الأردني.
لم تكن تركيا توجد شكليا في تلك المعاهدات و لكنها كانت مركز أستقطابها لأنها كانت القوة الأساسية في الشرقين الأدنى و الأوسط آنذاك، مُتسيِّدة المنطقة بموقعها الجغرافي الفريد كحاجزٍ أمام طموحاتِ دولة السوفييت و إيديولوجيتها الشيوعية.
الدور الأمريكي
و هكذا، بعد أن ضمَنَت بريطانيا مصالحها عن طريق الدول التي خَلَقَتْها في المنطقة، دخل السيد الأمريكي الحلبة بعنفوانه، إذ كتبَ جورج فيلدنك أليوت (المراسل العسكري و البحري لجريدة "نيو يورك هيرالد تريبيون") مقالةً مهمة في عددها الصادر في 7 تشرين الأول 1946 يقول فيها: "إن مصلحتنا الرئيسة و المباشرة موجودة في الشرق الأوسط التي تُعّدَّ منطقة عسكرية و أستراتيجية. توجد في تلك المنطقة تركيا، العراق، سورية، فلسطين، مصر، ايران و غيرها من الدول المجاورة و تعتبر المنطقة جسراً تاريخياً يربطُ الأجزاء الثلاثة في العالم القديم، أوروبا و آسيا و أفريقيا."
و يستمرُّ جورج أليوت في تصريحِهِ  شارحاً السياسة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، أي في عام 1946: "يوجد فراغٌ في الشرق الأوسط...من الممكن ملؤه بشعبٍ يعيش هناك و يتحمَّل المسؤولية، أو السماح بمجيء دولة من الخارج تحتل تلك المنطقة... أنهم (البريطانيون – آ. د.) لا يستطيعوا أن يتحمّلوا هذا الحِمل بوحدهم الآن، و نحن لا نستطيع أن نكون مناصرين للأستعمار القديم."
و يستمر في تصريحِهِ كناطقٍ بأسم السياسة الأمريكية آنذاك: "هناك حَلٌّ أخر محتمل، إعادةُ بعثِ الدولةِ العثمانيةِ بشكلٍ جديد و بمبادئ جديدة كلّية، مستندة على حقوق الأنسان و قوية بصداقة دولِ الشرق الأوسط."
و أما الدول المرشّحة لدخول الحلف الجديد المقتَرَحِ آنذاك فكانت تركيا، مصر، لبنان، سورية، العراق، فلسطين، شرق الأردن و المملكة العربية السعودية.
أي...وضع النبيذ الجديد في جرة قديمة.

بعد أن أفلَ نجم حامي تركيا البريطاني من أيام الإيرل بيكنسفيلد (دزرائيلي) الذي مهَّدّ للسلطان عبد الحميد الثاني أحتلال قبرص مقابل مصر، دخلَ الحلبةَ سيدٌ جديدٌ يحّقِّق مطالبَ بني عثمان الجديدة.
و بالنسبة الى تركيا لا يختلف معها الأمر أيّ سيِّدٍ ينامُ معها في السرير...فلا فرق بين السيد الأنكليزي المترهِّلِ الذي أفلَ نجمُهُ و بين السيّد الأمريكي ذي العنفوانِ و القوة.
المهم في الأمر هو السرير الذي تضطجعُ عليه مع أيٍّ منهما...
-------------
رأت تركيا في إنشاءِ دولةِ أسرائيل بداية تحقيق حلمها في النزولِ الى المنطقة العربية، فأعترَفَتْ بالكيان الجديد في 28 أيار 1948، أي بعد أسبوعين من تأسيسها.
و بعد أنهيار الأتحاد السوفييتي بذلَت تركيا جلَّ جهدِها لإيجادِ دورٍ دوليٍ جديد لها في المنطقة. و بسببِ صعوبةِ إقامةِ أحلافٍ أستراتيجية مع الدولِ العربية لأسبابٍ مختلفة، أتجهت صوب أسرائيل لتقريبِ ذلك الحلم في إيجادِ موضِع قدمٍ لها، و للمرة الثانية في المنطقة العربية، و لكن هذه المرة ليست بقوة أنكشاريتها، بل عن طريقِ أسرائيل.
-----------------
نشرتُ هذا المقال في العدد 161 لجريدة "الأخبار" الورقية الصادرة في لوس أنجيليس في 16 كانون الثاني 2008.
و السبب الذي دعاني الى إعادة نشره ثانية يعود الى الأحداث التي تجري في قلب الشرق الأوسط بدءاً من سقوط المحافظات السورية بيد الدولة الأسلامية في العراق و الشام (داعش)، فأعقبتها سقوط المحافظات العراقية و خاصة الموصل العزيزة جداً على قلوب الأتراك. في الوقت نفسه نرى الأسناد التركي المباشر لما تدعى ب (المعارضة السورية)، ليس حُبّاً بها و لا نكاية بالنظام الحاكم، بل لعل تخمير النبيذ الجديد على وشك الأنتهاء...فتحضِّر تركيا "الجرّة الأنكشارية القديمة..."

المصادر:
1-فاهان نافاسارتيان -"المضائق: البوسفور و الدردنيل" ، 1947، باريس.
2-عبد الرزاق الحسني-"تأريخ الوزارات العراقية"، الجزء السابع، 1988، بغداد.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1084 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع