حديث المقابر...

                                             

                     سيف شمس الدين الالوسي

                  

شيخ تظهر من ملامحه السحيقة قد نال من حكمة الحياة ما يكفي ، يسير متعكزا على عصاه المصنوعة من شجر الجوز، ورثها من أسلافه ، أصبح ملمسها ناعما جدا لكثرة ما احتكت بإياد ولعقود كثيرة .

مصقولة وكأنما قد طليت بالورنيش ، حتى انعكاسات القمر يظهر عليها ، عصاه أطول من قامته ، يسير محني الظهر وفوقه معطفا اسود اللون ولكنه هو الآخر قد خطه المشيب وأصبح لونه يميل إلى الأبيض .
لا يمكن تمييز وجهه بسهولة ، فهو نادرا ما يرفعه للأعلى ، وكأنما يبحث عن شيء في أعماق الأرض .
يقضي اغلب نهاره في صومعة بأعلى الجبل ، ولا ينزل منها إلا في وقت المغيب ، يحمل في جيبه تمرات معدودة تكون زاده خلال يومه  وبعضا من الخبز .
ليس لديه أصدقاء يسامرهم ويشاركهم ، رغم انه يحب البشرية ويأنس إليهم ، لكنه اعتكف عنهم وابتعد ، ولا يبخل عنهم في أي حكمة أو نصح أو عدالة إن التجأوا إليه، وكثيرا ما يحتجون عنده .
عند الليل يذهب إلى المقابر ، يزور أصدقائه ومعلميه ، كثيرا ما انتهل منهم وما زال ينتهل منهم الحكمة حتى وهم في المقابر .
هنالك يظهر صوته ....
--- السلام على الراقدين تحت الأرض ، السلام على الناجين من الجحيم ، هنيئا لكم داركم ومثواكم ، هنيئا لكم سكنكم ومأواكم ، لقد سبقتمونا إلى دار الخلد والرقود ، خرجتم من دار النفاق والقتل والتدمير ، اعرف بأنكم لو خير لكم بالعودة إلى حياتكم الأولى لرفضتم .
كل يوم نتجه إلى الهاوية ونكون آلات فيها ، نحن التروس التي تسير علينا آلة الكذب والأحقاد ، لقد أصبحنا طرقا معبدة لكل زيف وتدنيس ، أعمالنا شوهت ضمائرنا ووقفتها عن العمل وأعمتها ، لم يعد هنالك قلوب غضة مفعمة بالحياة .
سأمت هذه الحياة ومللتها ، اعتزلت الناس وجاورت نفسي ، وهل هنالك أكثر عدوا من النفس؟
أصبحت أخاف من كل شيء وأخشاه ، الهذيان يقتلني والكوابيس تخنقني ليلا .
يتجه إلى احد القبور وكأنما شعر بأنه لم يصدقه الحديث وقد بالغ بوصفه للحال وانه كثير الشكوى في هذه الأيام ، يصل إليه ويهمس عنده لألا تسمعه القبور الأخرى.....
--- احد أحفادك القي عليه القبض اليوم لارتكابه عدة جرائم ، أنت الذي ساهمت ببناء تاريخ هذا البلد، أنت الذي حلمت يوما بإكمال سيرتك العلمية وإكمال بناء ما بدأته، كنت كثير الأمل بذريتك الذين سيرفعون مجدك ويواصلون طريقك ، آل بهم الأمر إلى أقبية السجون .
يتجه إلى قبر آخر .......
--- وأنت يا قاضينا، أنت الذي صغت القوانين ، كانت محكمتك قبلة يتوجه إليها كل مظلوم ، من يدخلها يشعر بالأمان ، لأنه لا يخرج منها إلا وهو راض بما ناله ، كنت ترجع الحقوق لأصحابها ، لم تعد قوانينك يحتكمون بها .
أتعرف..... هي ألان ماذا؟ يحج إليها كل لص وكل ظالم ، أصبحت ملاذا للتزوير والقتل العشوائي باسم القانون ، يخرجون منها وهم يتصارخون يتباكون ، حتى ميزان العدل الذي كان في مدخلها ازيل ووضع مكانه مقصلة ، سمعت اليوم أن فتاة لم تبلغ من العمر عشر سنين قد زفت لرجل تجاوز الخمسين عاما .
ثم يتجه لقبر آخر ....
---- مدرستك التي بنيتها ومنحتها اسمك .
قلت يوما ... أتمنى يوما أن يكون لها فروع عدة ، انشر العلم في البلد ، كنت تتمنى أن تتوسع أكثر وأكثر حتى تكون جامعة ...... لقد استبدلوا اسمك ، وأصبحت مدرسة للجهل والتخلف ، ادخلوا فيها دروس الدين والقومية ، التي تزرع في عقول التلاميذ شتى صنوف الطائفية والعنصرية ، لغوا دروس الموسيقى والنحت والرسم ، رموا بتلك الآلات في حاويات النفايات .
ويتجه إلى قبر آخر ويهمس إليه .....
--- كانت مستشفاك رائعة ، خالية من الأوساخ والرشوة والسرقة، كان المريض يجد راحته فيها ، كان كادرها متميز وكفوء ...... قتل البعض منهم ، والبعض الآخر جمع حاجياته وفر خارج البلد ، وأصبحت مستشفاك أطلال خاوية ، لم يعد هناك عمليات جراحية ، بسبب جرثومة لا تقبل الخروج من صالة عملياتها ، هذا ما سمعته .
يخاطب جميع الأحياء في القبور بصوت مسموع ......
--- لقد تركتم لنا ارث عظيم ومجد شامخ ، لكننا لم نحافظ عليه ، حاولنا اقتسامه ، وفي النهاية خسر الجميع ، كل نظر إلى نفسه ولم يبال بالآخرين .
يخرج من جيب معطفه قنينة فيها ماء ورد ويرشه على القبور ومن ثم يرحل ، يمشي كعادته محني الظهر ، ويغرق ظلام الليل شيئا فشيء ولا يظهر منه أي شيء سوا بريق خفيف من لمعان عصاه التي عكست ضوء القمر ، وصوتها وهو يتعكز عليها على الأرض .
سيف شمس الدين الالوسي
2015
بروكسل

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

754 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع