علاء الدين الأعرجي
مفكر عراقي متخصص بأزمة التخلف الحضاري العربي
يشهدُ التاريخُ على أنَّ الحضاراتِ قد نشأَت أصلاً، على الأرجح، من جرَّاء مُبادراتٍ اضطلعَ بها أفرادٌ تمكـَّنوا من استخدام عقلهم الفاعل المُبدِع، إمَّا باختراعِ آلةٍ أو أداة تـُغيِّرُ طريقةَ حياة الناس، وإمَّا بالخروج بفكرةٍ مُبتكَرة تُغيِّرُ المفاهيمَ الراسخةَ في العقلِ المُجتمَعيّ. وبالإضافةِ إلى عقلهم المُبدِع، لا بدَّ من أنَّ معظمَ هؤلاء العباقرة، كانوا يتحلَّون بإرادةٍ مُتوثِّبة وعزمٍ راسخ. وفي هذا السياق يقول ”ويل ديورانت“ Will Durant، صاحبُ موسوعة ”قصَّة الحضارة“، في كتابه ”دروس التاريخ“، جوابًا عن سؤالٍ يتعلـَّقُ بتفسيرِ ظهور الحضارةِ في بعض المُجتمعاتِ دون مُجتمعاتٍ أخرى: بإنَّ ذلك يعتمدُ على وجود أو غياب عنصرِ المبادرةِ و وظهور أشخاصِ مُبدِعين يتحلَّون بألقِ الفكر وقوَّةِ الإرادة؛ وهذا هو تعريفُ العبقريّ، على حَدَّ تعبيِره.
ومع أنَّ معلوماتِنا جدُّ قليلة عن العباقرة الذين شرعوا ببناءَ أوائل الحضاراتِ القديمة وتطويرِها، بما فيها السومريَّة والمصريَّة والأكَّدِيَّة والبابليَّة والآشوريَّة والفينيقيَّة، فإنَّ نتائجَ مُبادراتهم تظلُّ تُشكِّلُ نقاطًا مُتألِّقة تُضيءُ علينا حتَّى الآن، بما في ذلك اختراعُ العَجَلة والمِحراث، في حوالى 3500 ق م، في ما بين النهرين، وابتكارُ الشراعِ في مصر في حوالى نفس الفترة، وابتكارُ الكتابةِ والحروفِ الأبجديَّة في فينيقيا إلخ. ويمكنُ أن نعتبرَ كيلكاميش (جلقامش) Gilgamesh من أوائل الشخصيَّات الأُسطوريَّة التي تُمثِّلُ ”المُثـقـف“، الذي يُكافحُ بعَزمٍ للبحث عن الحقيقةِ وسرِّ الوجودِ والخلود.
أمَّا إبراهيم الخليل، الذي عاش في حوالى مطلع الألف الثاني قبل الميلاد، فإنـَّه يُعتَبَرُ بحقّ من أوائل المُستنيرين الذين ثاروا على عقائد مجتمعِهم الراسخة، استناداً إلى الكتابُ المقدَّس والقرآنُ الكريم. وتدلُّ الآياتُ الواردة في سورة الأنعام على المحاكمة العقلانيَّة، التي جاءت على لسان إبراهيم، باستخدام عقله الفاعل لمحاسبة عقله المنفعل، قبل أن يثورَ على العقلِ المُجتمَعيّ السائد، فيصرخ في وجه قومه: إنِّي بريءٌ مِمَّا تـُشرِكون (الأنعام: 75-77) .
وبعد ذلك، يتوالى الأنبياءُ والمفكِّرون والفلاسفةُ والعُلماء، الثائرون على مُسَلَّماتِ العقلِ المُجتمَعيّ، على اعتلاءِ مسرحِ التاريخ، لِيُنشئوا أعظمَ الحضارات المعروفة، ومنها اليونانيَّة والعربيَّة الإسلاميَّة، والأُوربيَّة الحديثة.
والأمثلةُ كثيرةٌ على الصراع الذي كان مُحتدِمًا، على مَرِّ التاريخ، بين حُرَّاسِ العقلِ المُجتمَعيّ، الذين يتمسَّكون عادةً بالاتِّباع، ورُوَّادِ العقل الفاعِل من العباقرة الذين تمرَّدوا على ذلك العقل المجُتمَعيِّ وعلى العقلِ المنفعِل، فعانَوا ما عانَوا من التنكيل والإرهاب والإحراق أحيانًا، خاصَّةً خلال فترة النهضة الأُوروبيَّة.
وانتهى ذلك الصراعُ لمصلحة رُوَّادِ العقلِ الفاعل في أُوربَّا وأمريكا ثمّ في اليابان، وأسفرَ عن انطلاق الحضارة الحديثة، حيث أَصبح لرُوَّاد العقلِ الفاعل المكانةُ العُليا فيها، مهما كانت أفكارُهم مخالفةً للعقلِ المجُتمَعيّ؛ بل تطوَّرَ العقلُ المُجتمَعيُّ مع تقدُّمِ الحضارة، فأصبح أكثرَ رحابةً وقبولاً للرأي المُخالف، مهما كان قاسيًا ومُتهجِّمًا، إلاَّ إذا خالف القانونَ أو النظامَ باستعمال القوَّة.
بَيدَ أنَّ المعركةَ لا تزال محتدمةً في وطنِنا العربيّ، على الرّغمِ من أنَّ نهضتَنا الفاشلة قد انطلقَت قبل نهضةِ اليابان بخمسين عامًا على الأقلّ. ولا يزال حَمَلةُ الفِكرِ الجديد (العقل الفاعل)، المُخالِف للعقلِ المُجتمَعيّ يتعرَّضون لمختلفِ أصناف الإرهابِ والقَهر، بل التنكيلِ والمحاكمةِ والتشريدِ أو الطردِ أو الاعتداءِ أو القتلِ أحيانًا.. تُرى، هل ما زلنا نمرُّ بنفس المرحلة التي مرَّت بها أُوروبَّا، قبل أكثر من خمسة قرون، على الأقلّ؟
861 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع