دلع المفتي
ها هو الربيع العربي يدخل سنته الرابعة مخلّفاً شتاءً قارساً وصقيعاً حملَ الينا ما لم يخطر على بال. هذا الربيع (الذي فقد ربيعه) لم يقتل ضحاياه فقط بل قتل إنسانيتنا نحن الأحياء،
فبعد مشاهدتنا لآلات الذبح السينمائي والتفجير والدم النافر من كل الجهات ضد كل الجهات، وبعد أن تعودنا آسفين إحصاء أعداد القتلى يوميا، يبدو أن عواطفنا تجمدت، لم يعد يهزنا منظر الدم، ولم نعد نشيح بوجوهنا عند ظهور الأشلاء البشرية على الشاشات، ولم نعد نهتم ونحن نشاهد ضياع أوطاننا أمام أعيننا، أصبحنا - وللأسف - صورة أخرى عن الوحوش التي تعيث خرابا في ديارنا.
كل الذي مرّ لم يكف. التتار الجدد، كونهم نجحوا بجعل العين البشرية تتقبل صورة الوحشية والعنف والدمار، فراحوا يبحثون عن شيء أكثر إثارة وصدمة للمشاهد، فحملوا لنا وجعاً من نوع آخر وقدموه لنا بشكلٍ مختلف أيضا، وجع عميق بعمق التاريخ بل بعمق البشرية.
خلال دقائق وقفنا كلنا شاهدين على أبشع عملية محو للتاريخ، متفرجين على معاول أقزام داعش وهي تحطم آثار العراق بكل وحشية وهمجية، حين وقف واحد منهم بكل عنجهية وتخلف، و«صرح» بأن «هذه أصنام وأوثان لأقوام في القرون السابقة كانت تُعبد من دون الله»، ثم هوى على تلك القطع والمجسمات الأثرية التي يعود بعضها للقرن الثامن قبل الميلاد.
أيها الناس أيها العالم الذي ما زال البعض فيه يؤيد داعش ويرسل اولاده وأمواله لنصرتهم، هل رأى احدكم مسلما يركع ويعبد تلك الآثار؟ هل ما زالت تلك الحضارات والأديان بيننا الآن؟ أم أن داعش حريص على عقائدنا فيخشى أن نعود لعبادة الشمس والقمر والأصنام؟ ما هذا الهراء وأي تخلف وجهل نغرق فيه؟ لماذا لم يهدم النبي، صلى الله عليه وسلم، والخلفاء تلك المعالم والحضارة، ولم يحطم آثار بلاده وبلاد المسلمين في العراق والشام واليمن ومصر وغيرها، ولم يطلب من أحد ان يفعلها؟
إن الآثار جزء مهم وخطير من تاريخ البشر، وهي تدل على أصول الأمم وعمقها الحضاري وهي ما تثبت وجود الإنسان في بقعة ما في زمن ما. داعش يعلم ذلك جيدا، لهذا هو يحاول فك الارتباط بين الإنسان وحضارته وإرثه، ويسعى جاهدا الى طمس هوية الإنسان العراقي (والسوري) وسلب هويته، ويصر على فرض هويته التي يروّج لها على أنها «إسلامية» بلباس أفغاني وعقول متخلفة، فتطاول على كل المقدسات من مختلف الديانات والمذاهب، وحطم مساجد وكنائس ومعابد ومزارات ومقابر، وشرد وقتل وذبح مسلمين ومسيحيين، سنة وشيعة وايزيديين، أكرادا وتركمان، سوريين وعراقيين وأجانب. وحطم مواقع آثار ومتاحف. داعش ملطخ بدماء كل من اقترب منه واحترق بناره.
إن ما فعله داعش بالبشر لهو أكبر وأخطر وأكثر حرمة مما فعله بالحجر، لكننا لا نجزّئ جريمةً عن أخرى، فآثار العراق إرث حضاري إنساني وليست ملكا للعراق وحده. نحن زائلون، لكن إرثنا هو ما بقي وسيبقى لمن يأتي بعدنا.
1005 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع