د. منار الشوربجي
مدهشة تلك التفاصيل التي تناقلتها الصحف ووكالات الأنباء عن الطائرة المنكوبة لشركة جيرمين وينجز التابعة لشركة لوفتهانزا والتي راح ضحيتها 150 شخصاً كانوا على متنها.
فما قاله المدعي العام الفرنسي حين أشار بأصبع الاتهام إلى مساعد الطيار يثير من الأسئلة أكثر مما يقدم من إجابات، وهو يطرح علينا لا فقط أسئلة وانما معضلات كبرى تتعلق بمعنى الحياة واستخداماتنا المختلفة للغة ومعانيها.
فقد تم العثور على صندوق أسود يخص الطائرة الايرباص التابعة لجيرمين وينجز التي ارتطمت بجبال الألب الأسبوع الماضي. وبناء على فحصه، قال المدعي الفرنسي، المكلف بالتحقيق، ان مساعد الطيار مسؤول عن تحطيم الطائرة ومصرع كل من عليها. فهو كان وحده في قمرة القيادة منذ خروج الطيار، لقضاء حاجته على ما يبدو، وحتى سقوط الطائرة.
وأن مساعد الطيار، الذي سيطر بالكامل على الطائرة في تلك الفترة، ضغط على الزر الذي يباشر عملية الهبوط وأنه لم يستجب لمحاولات الطيار المستميتة للعودة لقمرة القيادة رغم طرقه على الباب بل وركله بقدميه. ويقول المحقق ان صوت تنفس مساعد الطيار بشكل طبيعي كان واضحا في تسجيل الصوت طوال تلك الفترة وحتى تحطم الطائرة، وأنه ظل صامتا رغم طرق الطيار المتزايد على الباب وانشغل، بدلا من ذلك، بإسقاط الطائرة.
وما هي إلا ساعات حتى كانت لدينا تفاصيل إضافية تبحث في ماضي مساعد الطيار وتقول انه عانى في 2008 من اكتئاب حاد منعه من استكمال تدريبات الطيران ولكنه عاد بعد ثمانية عشر شهرا واستكملها وحصل على شهادة الطيران بعد اجتياز الاختبارات النفسية والبدنية اللازمة وطار بعدها 6 آلاف ساعة إلى أن استقل الرحلة المنكوبة.
وقيل أيضا ان مساعد الطيار مزق خطابا من طبيبه كان يشرح حالته الطبية عشية الرحلة المنكوبة ويسمح بإعفائه من الطيران يومها لسبب صحي لم يكشف عنه. وتكشفت تفاصيل أخرى عن خلاف بينه وبين صديقته التي كان يعيش معها. ثم قيل ان المحققين فتشوا شقة مساعد الطيار وعثروا فيها على أشياء «ذات مغزى» للتحقيق رفضوا الإفصاح عن طبيعتها...
وإن كانوا قد نفوا أن تكون رسالة انتحار. باختصار، سرعان ما صارت لدينا نظرية متكاملة تقول ان مساعد الطيار هو الذي أسقط الطائرة عمدا، مع إشارات لمرضه النفسي السابق، الأمر الذي يوحي بأنه فعل ذلك لينتحر. ولا تزال التحقيقات في مراحلها الأولية، فهي في مثل هذه الحالات تستغرق شهورا وربما سنوات.
لكن النظرية المطروحة حاليا، أي «انتحار مساعد الطيار» تطرح أسئلة كثيرة. وأول تلك الأسئلة، إذا ما سلمنا بالنظرية، يتعلق بما إذا كان يجوز أصلا أن نسمي ما جرى «انتحارا»!! فالمعروف أن الانتحار فعل يقدم عليه فرد ليتخلص من حياته فقط لا من حياة مئة وخمسين شخصا دفعة واحدة! فاللافت أن المدعي العام الذي «استبعد الإرهاب» سببا لسقوط الطائرة بل واستبعده حتى ضمن دوافع مساعد الطيار هو نفسه الذي يتهم مساعد الطيار بإسقاط الطائرة باعتباره «منتحرا».
فهنا، نصبح إزاء خلل لغوي ومفاهيمي. فما هو المعيار الذي يمكن على أساسه اعتبار قتل 150 نفسا بشرية بإسقاط طائرة هم على متنها «انتحارا»، بينما يمكن اعتبار تفجير شخص لنفسه في قطار يركبه العدد نفسه «إرهابا»؟
وما الفارق بين الانتحار والإرهاب إذن؟ وما يثير التساؤل أيضا ما نقلته الصحف من أن أصول مساعد الطيار الإثنية وديانته لم يفصح عنهما وأنه أمر تتولاه السلطات الألمانية وحدها.
وكأن الموضوع كله سيصبح إرهابا فقط بناء على أصول الرجل ودينه، لا بناء على طبيعة الفعل نفسه!. أما السؤال الثاني الذي يطرح نفسه، فيحتاج لإجابة من أساتذة الطب النفسي. فما هي بالضبط الحالة الذهنية للمقدم على الانتحار بخصوص حياة الآخرين من حوله؟ هل يكون عادة على استعداد لقتلهم من أجل الخلاص من حياته؟
والإجابة عن ذلك السؤال مهمة للغاية لأن معناها أن المقدم على الانتحار لا يكون فقط خطرا على نفسه وانما على كل من حوله. ويستتبع ذلك سؤال ثالث متعلق بما قيل عن التسجيل الصوتي الذي رصد أن مساعد الطيار، المفترض أنه كان يستعد للانتحار كان يتنفس «بشكل طبيعي».
فالسؤال، والموجه أيضا لأطباء النفس، هل يكون المقدم على «الانتحار» بمثل ذلك الثبات النفسي، بحيث يكون صامتا تماما ويكون تنفسه «طبيعيا» وهو يجهز نفسه ليلقى حتفه ويأخذ معه أرواحا بريئة بينما يوجد طرق عنيف على الباب؟
السؤال الأهم من هذا وذاك، هل إصابة شخص بمرض نفسى في مرحلة بعينها من حياته معناها أنه صار غير لائق لأعمال بعينها مدى الحياة؟ الواضح أن النفي هو إجابة هذا السؤال بدليل أن لوفتهانزا التي كانت تعرف، على الأقل، التاريخ المرضي لمساعد الطيار حين ترك التدريب منذ سبع سنوات تقريبا، ومع ذلك عادت واختبرته وسمحت له بالطيران بعد اجتيازه الاختبارات النفسية والصحية المطلوبة.
فإذا كان الأمر كذلك، فلماذا تم القفز مباشرة إلى نظرية الانتحار بناء على سجله الطبي؟ ألا توجد نظريات أخرى تفسر التنفس الطبيعي للرجل المتزامن مع صمته الكامل حتى رغم الطرق المستمر على الباب؟ هل كان يعاني من شيء ما أم أنه كان يحاول إسقاط الطائرة بدم بارد لا يمكن أن يوصف إلا بالإرهاب؟
981 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع