أ.د. محمد الدعمي
لست أنسى الأعاجيب والغرائبيات التي جاء والدي، رحمه الله، محملًا بها بعد زيارته لصين الرئيس “ماو تسي تونج” ورفيقه الحميم “شو إن لاي”، على سنوات مرحلة الثورة الثقافية.
كانت هذه الدولة العملاقة دولة مقاطعة، ترزح خلف ستار حديدي محكم فرضه عليها الأميركان بمعية دول العالم الغربي حتى يوم وطأت أقدام الرئيس الأميركي السابق، ريتشارد نيكسون، بكين حيث وضعت زيارته تلك نهاية للمقاطعة الفولاذية التي كانت مفروضة على الصين.
وقد أخبرنا المغفور له الوالد بأنه عندما أوشك على المغادرة عائدًا إلى بغداد، قرر إهداء بدلة رجالية إنجليزية فاخرة كان قد ابتاعها من هونك كونج قبيل وصوله “كانتون”، للمترجم الذي خصصته الحكومة الصينية لمرافقته وتلبية حاجاته ليل نهار. اعتذر المترجم لعدم قبول هدية الوالد، قائلًا: “وأين لي أن أرتدي مثل هذه البدلة الراقية، إذا كان الرفيق ماو يرتدي ذات النوع من بدلات الكتان التي يرتديها العامل والفلاح في كافة أرجاء الصين”.
وإذا كان هذا الرد مفاجئًا للوالد ولمستمعيه في بغداد آنذاك، أي سنة 1969، فإنه قفز إلى رأسي وأنا أتابع قبل يومين أخبار “أكبر برلمان” في العالم، أي “المجلس الأعلى لممثلي الشعب الصيني”، وهو يضم بين أعضائه أفرادًا، يقدرون بالعشرات، من أصحاب المليارات (المليارديرية)، حيث يملك واحد منهم فقط من الدولارات عشرات أضعاف ما يملك أغنى عضو في الكونجرس الأميركي، “السيد دارل عيسى” Issa، العربي الأصل.
أليست هذه إضافة أصيلة لقائمة العجائب التي عاد الوالد يحملها من الصين عام 1969؟ للمرء أن يتأمل هذه الحركية الصينية الذكية التي دحضت نظريات ماركس Marx وإنجلزEngels، ثم تجاوزتها إلى تطبيقات أبي النظام الشيوعي السوفييتي، “فلاديمير أليتش لينين” Lenin وأبي الشيوعية الصينية، ماو Mao، اللذين لم يخطر في بالهما قط أن تنتج الاشتراكية مضاداتها بنفسها بعد عدد قليل من العقود التي أعادت توزيع الثروة بنفس الطريقة التي لاحظها المسرحي الأيرلندي الساخر “برناردشو” Shaw، في مقولته الطريفة والشهيرة التي تنص على “إن الثروة تشبه الفارق بين رأسي الأصلع ولحيتي الكثة: “غزارة في الإنتاج وسوء في التوزيع”!
كانت الصين الشعبية دولة غير معترف بها مقاطعة من قبل أقوى دول العالم التي إذا اكتشفت دولة أخرى تخرق مقاطعتها لها، فإنها تعمد إلى وضع تلك الدولة إلى جانب الصين في ذات القائمة السوداء. لم يرضخ الشعب الصيني لهذا الهوان. لذا فإنه عمد إلى إرفاق حيويته في مراجعة “الكتاب الأحمر” وفي أعمال لجان الحزب الشيوعي المركزية طيلة العقود القليلة مذاك إلى يومنا هذا بالعمل الدؤوب لتستحيل الصين إلى أكبر قوة اقتصادية في العالم، درجة أن الولايات المتحدة، سوية مع عدد لا بأس به من الدول الغنية الأخرى، مدينة للصين بمليارات الدولارات الآن. أليس في ذلك التغيير شيء من الإعجاز لقطع المسافة بين الفقر والثروات، وبين هامشية الواقع وآفاق الحلم، خاصة عندما نستذكر مقولة كارل ماركس، صاحب النظرية الشيوعية وكاتب “البيان الشيوعي” التي تفيد بأن “الإنسان هو أكبر رأس مال”، ممررًا دلالتها إلى الصينيين قبل الروس والألمان وسواهم من اليساريين الأوروبيين.
للمرء أن يلاحظ الديناميكية الآدمية الصينية ليقارنها بمكافئاتها في دول العالم الثالث عامة، وفي دول العالم العربي خاصة: فكم من الأميال قطعنا منذ عام 1969 حتى اليوم، مقارنة بالأطوال الزمنية والمكانية التي قطعها الصينيون في الفترة ذاتها؟ سؤال منطقي، برغم ما يتركه في النفوس من شعور محبط بالسكونية السلبية.
1039 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع