آية الأتاسي*
«ارفع علم ثورتك»:
هكذا رفع ناشطو الثورة السورية شعارهم على وسائل التواصل الاجتماعي، في الذكرى الرابعة لانطلاق الثورة السورية، علمٌ بأربعة ألوان، هي نفسها ألوان علم النظام وغالبية الدول العربية.
ألوان مستمدة من بيت الشعر للشاعر صفي الدين الحلي:
بيض صنائعنا خضر مرابعنا سود وقائعنا حمر مواضينا
لكننا الآن كسوريين، وإن كنا نرفع علم الثورة بألوان الأبيض والأخضر والأسود والأحمر، فإننا لا نشعر أن بيت الشاعر الحلي يمثلنا. فما زالت ثورتنا ثورة انعتاق وحرية، ومهما سرقت واتشحت ألوانها بالسواد، يبقى هدفها الأسمى تحويلنا من رعايا دولة استبدادية إلى مواطنين أحرار في دولة مدنية تعددية ديمقراطية، ولهذا يصح أكثر أن ننسب لألوانها قيماً، كالحرية والكرامة والمساواة والعدالة الاجتماعية.
اليوم في ذكراها الرابعة، نتذكر شجاعة أطفال درعا، وهم يخربشون أحرف حريتنا الأولى على جدران الصمت، ويعلموننا أن الرجولة ليست بالاستقواء على الجنس الناعم، ولا بطول الشارب وانتفاخ العضلات، وإنما هي في رفض الذل ورفع الصوت في وجه الطغاة. ونتذكر جملة المواطن السوري المقهور، «أنا ماني حيوان وهالعالم كلها مثلي»، جملة تختصر ببساطتها كل معاناة الشعب السوري مع نظام استعبد شعبه وجرده من كرامته وأبسط حقوقه الإنسانية.
حقاً… لا شيء يشبه ما عاشه السوريون خلال الأربعين سنة الماضية، وكأن الروح تتخلل في ملوحة من القهر والحرمان، ولكن من دون أن تعتادها، بل يمكن القول إن ما حدث في آذار السوري، يكاد يكون ضرباً من الجنون أو المستحيل، فإن تتمرد على منظومة عريقة في القمع والاستبداد، ومتوافق عليها دوليا، فكأنك تقف عارياُ ووحيداُ أمام العالم بأسره.
وهكذا كانت الثورة السورية اليتيمة العارية، كأنها تحارب العالم وتعريه، ولهذا تكالبت عليها بالنهاية كل قوى الشر والتطرف من دول إلى جماعات ارهابية.
صحيح أننا نشهد اليوم انتصاراً جزئياً للاستبدادين الأسدي والداعشي، وإقصاءً للشعب من معادلة الصراع الإقليمي والدولي، ولكن ما صار جلياً أيضاً أن النظام سقط فعلياً على الأرض، فقد خسر أكثر من سبعين بالمئة من مناطق سيطرته، وأصبح مجرد ممثل للنفوذ الإيراني ومطامحه التوسعية في المنطقة. في حين أن ما ربحه الشعب السوري، يستحيل انتزاعه منه بعد الآن، فلقد هدم جدار الخوف الرهيب، ولا شيء يستطيع بعد اليوم أن يعيد مارد الثورة إلى قمقمه، فيما عدا تعويذة الألوان الأربعة، حرية وكرامة ومساواة وعدالة الاجتماعية.
أتذكر اليوم أكثر اللافتات التي حفرت في وجداني بداية الثورة، حملها شاب في تظاهرة وكتب عليها:
«لن نسكت كما سكت آباؤنا عن مجزرة حماة»….
لن نسكت، يعني أننا نمتلك أعتى سلاح، وهو لساننا المقطوع منذ ولادتنا في كنف «سورية الأسد»، فيما يخصني أعترف، وأنا في أواسط الأربعين، بأنني لم أعش لحظة سعادة حقيقية منذ ولادتي، مثلما عشت لحظة هتفت فيها مع الآخرين «سورية بدها حرية»… وكأنني استعدت صوتي، وكأن قدميي عندما رقصتا مع الآخرين فوق صور الطاغية، أعادتا لي توازني فوق هذه الأرض المائلة، هذه اللحظة وهذا الإحساس لن يستطع أحد أن يسرقه مني بعد اليوم… إحساسي هذا ليس وهماً، وهو ما عبر عنه شاب مصاب في بداية الثورة، فقال قبل أن يفارق الحياة: «أنا سعيد أنني عشت هذه اللحظات القليلة من الحرية، والآن سأموت حراً».
وحده فاقد الشيء يدرك قيمته، وأنا مثله أشعر اليوم بأنني ابنة للحرية، بعد أن كنت ومنذ ولادتي ابنة للسجن، الذي ابتلع أبي وطفولتي معه. الثورة حررت لساني، ليروي ليس قصتي وحدي، بل آلاف القصص السورية المشابهة، التي جعلت قصتي مجرد نسخة مخففة لما يعيشه السوريون اليوم، وقد صار السجن الصغير باتساع وطن. وكأن حكاية البنت الصغيرة التي كنتها، توالدت سلسلة لا نهائية من قصص المعاناة السورية مع السجان الواحد بوجوه متعددة، وكل محاولة منا للتذكر هي قطع رمزي لأحد تلك الرؤوس، فما يخيف القاتل حقاً ليس جثة القتيل، بل الشهود القادرين على رواية وقائع الجريمة وتوثيقها.
رقم 2935
إذن نتذكر كفعل مقاومة، والذاكرة عشوائية وغير متسلسلة، والآن أراني في بداية الثمانينات من القرن الماضي… في حصة التربية العسكرية المدرسية، يقف الطلاب كما في فرع التحقيق السياسي، ويجيبون عن كل الأسئلة الشخصية على الملأ. أما السؤال الذي كان يزعجني دائماً، ويثير من حولي الهمس واللمز، فكان عن مهنة والدي. فهل أجيب بأن والدي معتقل سياسي وغير قادر على العمل، أم أختصر المسألة ببساطة اللافتة التي ظلت معلقة على باب عيادته الحمصية طوال سنوات سجنه. كان خياري دائماً محسوماً، وكنت أجيب بتحدي اللافتة الباقية هناك:
والدي طبيب…
ولكن ما كان يعرفه الطلاب والمدربة والجميع، أن الطبيب لا يعالج إلا زملاءه السجناء في سجن المزة… ولكنني مع ذلك بقيت محتفظة بنسختي الخاصة عن أبي:
أب بغمازة، تذكر دائما أن الفرح يحفر أيضاً في الوجه عميقاً، غمازة ورثتها عنه بالجينات وبخبرة مديدة في ترويض الألم. وحذاء أسود، كان يستهويني وأنا صغيرة لمعانه الدائم، ومع العمر بدأت أفهم أن اللغز يكمن في أن صاحبه لا يرتديه إلا في فترات متباعدة ولساعة واحدة فقط، في ما يتعارف عليه في لغة السجن «الزيارة».
عندما توفي أبي، وانتفخ جسده من سرطان السجون، قال لي أحد الأقارب: أنت محظوظة لأنك لم ترينه حينها، فاحتفظي بصورته في رأسك، كما تتمنين أنت لا كما يتمنى سجانه لك. عادت جملة قريبي إلى رأسي، وأنا أقرأ عن معرض صور لضحايا التعذيب في السجون السورية، أقيم في مقر الأمم المتحدة في نيويورك، وتساءلت عن حقنا في رؤية البشر كذبائح آدمية، وهل نحن حقاً بحاجة لاشمئزاز وشفقة الغرب، أم بحاجة أكثر لتفهمه ودعمه لقضيتنا. وتساءلت عن شعور أهل الضحايا وهم يرون أبناءهم جثثاً عارية مشوهة، لا أسماء ولا هوية لها، بل مجرد ورقة صغيرة تلتصق بالرأس، مكتوب عليها رقم القاتل، أي رقم فرع التحقيق، ورقم القتيل في سجل طويل ومديد للعذاب. حسمت أمري بأن لا أشاهد الصور، ليس رأفة بقلبي من هول المشهد، ولكن احتراماً لإنسانية الضحايا وحزن أهاليهم. ولكن خطأ عابراً جعلني أشاهد صورة لفتاة مستلقية، وهي مغمضة العينين، فظننتها بادئ الأمر نائمة. ولكن ورقة صغيرة على جبينها، مكتوبا عليها رقم الفرع 215، ورقمها التسلسلي 2935 أي رقم ما بعد الألفين للعذاب، جعلني أدرك أنها ماتت في السجون الأسدية. المؤلم بالأمر أن مسحة سكينة كانت بادية على وجه الفتاة، كمن استراح بالموت من عذاب أليم.
حقيقة لست أدري إن كان انسانياً ومحتملاً، لأهالي الضحايا أن يبحثوا عن أبنائهم وسط هذه الصور المروعة، وربما سيتعذر التعرف عليهم جراء التشويه الناتج من الجوع والتعذيب. وقد يكون العذاب في انتظار عودة المفقود، أرحم من العثور عليه بوجه مشوه. وكأننا أمام بيت شعر محمود درويش:
أهدي إلى جاري الجريدة كي يفتش عن أقاربه… أعزيه غداً
وأظن إن لا كلمات عزاء يمكن للغة ان تخترعها في حضرة كل هذا الألم، ولكننا كالفلسطينيين لا نملك إلا أن نقاوم، فلا طريق رجوع متاح لنا إلا إلى مسالخ الأسد البشرية.
قبل فترة قالت لي صديقة تعيش في المناطق المحاصرة، إنها تشعر الآن وكأنها محنطة، أجبتها أن التحنيط مرحلة ما بعد الموت وأن المحنط لا أمل له بالعودة إلى الحياة. سكتت وقالت: إنها ما زالت تنتظر وربما الانتظار فعل حياة أيضاً، لأنه قد يفضي إلى مكان ما. وتناهى لسمعي صوت ضحكتها الخافتة وهي تقول: لا تخافي لن نحترف الموت كحفاري القبور، وسنبقى قادرين على الأمل. إنه الأمل الأجمل إذن قدرنا يا صديقتي، ذاك الآتي من قلب الألم، وهي حذاقة اللغة العربية أو ربما قسوتها في أنها اختارت لنا، الألم والأمل بالأحرف والوتيرة نفسيهما، وكأنهما ضدان لا يكتملان إلا إذا اجتمعا.
٭ كاتبة سورية
1021 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع