إبراهيم الزبيدي
كتب كثيرون تعليقا على تصريح يونسي، مستشار روحاني، الذي غازل فيه مواطنيه بأن دولة الولي الفقيه تمكنت من تحقيق حلم الأجيال، وجعلت من إيران امبراطورية فارسية من جديد عائدة إلى عاصمتها بغداد التي طردت منها يوم سقوطها ودخولها الإسلام في القادسية على يد القائد العربي سعد بن أبي وقاص.
طبعا لا يُستشف من هذا التصريح المتهور غير الحكيم سوى غرورالقوة والتعالي وازدراء أمة عريقة ضاربة في التاريخ، مع ما فيه من إهانة فاضحة وحرج يشبه الفضيحة لحلفاء امبراطوريته من العراقيين العرب الشيعة، قبل غيرهم.
صحيح أن إيران اليوم تمددت كثيرا، ولكنها لم تصبح امبراطورية واسعة النفوذ والهيمنة بسبب قوتها القاهرة، بل بفضل ما تسبب فيه الاحتلال الأمريكي للعراق، أولا، ثم لدول الجوار الأخرى كلها تقريبا، من تمزق وتشرذم وضعف وضياع.
ولكن ليست هذه المرة الأولى التي تعبر فيها إيران حدودها، وتغزو جيرانها، وتعمل فيهم تخريبا وتقتيلا، وتسومهم سوء المآب.
فقد تمردت، عبر تاريخ طويل جدا، على قوانين الطبيعة، مرات عديدة، وأفلحت في ضم دول أخرى في الإقليم إلى أملاكها. ولكنها كانت دائما تبوء بالخذلان، وتخرج من مستعمراتها مهزومة، حاملة جراحا لا تندمل، لا كرامة ولا سيادة، ولا استقلال، تاركة وراءها الآلاف من أبنائها قتلة أو أسرى أو مطاردين، ثم تصبح، هي نفسُها، مستعمرة ملحقة بأملاك منتصرٍ جديد.
فلم تهدأ الحروب بين الروم والفرس على أرض الرافدين وحولها، على امتداد قرون.
وفي أواخر القرن السادس الميلادي حدثت معارك طاحنة بين القبائل العربية والفرس، على أرض الرافدين أيضا، وانتصر العرب فيها وهزموا الفرس شر هزيمة.
بعد ذلك بقليل، وفي أوائل القرن السابع الميلادي، ظهر الإسلام وباشر حروبه الشهيرة لنشر رايته في البلاد المجاورة، وكانت أولى فتوحاته وأهمَّها على الإطلاق، خارج الجزيرة العربية، هي فتحُ العراق وإسقاط (يزدجرد بن شهريار) كسرى الفرس وأكبر ملوك العالم حينها، والانطلاق من العراق نحو الشرق واكتساح أراضي الدولة الفارسية بالكامل.
ثم دخلت الأمة الفارسية كلها، تقريبا، في الدين الجديد. ولكن القيم الإسلامية الجديدة لم تستطع أن تغسل نفوس الغالبية من أبنائها من أحقادها القومية الدفينة.
وظلت الحركات السرية المعادية للعرب تولد في إيران، وتترعرع وتقوى، ثم تنتشر منها نحو بلاد المسلمين. وكانت ترتدي، غالبا، ثياب الحمية والتقوى وتتظاهر بالثورة على ظلم الخلفاء وعُمالهم في إمارات بلاد فارس، وتستظل بدعاةٍ من آل البيت الهاشمي الذين انتـُزعت منهم الخلافة.
ما أريد أن ألفت النظر إليه في هذه المقالة هو أن الإمبراطورية الفارسية، في أغلب حروبها السابقة، كانت مدفوعة بقوتها الذاتية المتضخمة، وبقدراتها المالية المتراكمة، وجيوشها الجرارة الهادرة. وأكبر الفروق بين امبراطورية الأمس وامبراطورية اليوم أن الأولى كانت تمول حروبها من ثروات البلاد المفتوحة وتغذي جيوشها برجالها وشبابها بقوة الظلم والابتزاز والاستعباد.
أما امبراطورية الولي الفقيه اليوم فتنفق من أموال شعبها المحتاج، ومن قوته العسكرية، على مستعمراتها الجديدة، وعلى خدمها من جنود وضباط المليشيات المحلية التي تشكلها لتحارب بالنيابة عنها أو مع جيوشها، في العراق، وسوريا، واليمن.
هذا شيء. والشيء الآخر الأهم أن امبراطورية الأمس كانت جبارة وقاهرة فعلا تنتصر على جيوش جرارة تسد عين الشمس، في أيام، وليس في شهور وسنين.
تأملوا الإمبراطورية الجديدة وهي تزج بأشد قواتها المسلحة عددا وعدة، وأقسى مليشياتها المسلحة المحلية، ولا تستطيع تحرير مدن صغيرة في محافظة ديالى، وهي على حدودها، إلا في أسابيع عديدة، وفي بعضها الآخر ما زالت تقاتل إلى اليوم دون انتصار حقيقي.
وأية امبراطورية هذه التي لم تصل إلى تخوم تكريت إلا بعد شهرين، بأفضل دباباتها، وأحسن خبرائها وقادتها العسكريين، ثم تتوقف عند تخومها بذريعة الألغام والمفخخات التي زرعها داعش في المدينة؟
وأية امبراطورية هذه التي تقاتل أربع سنوات مسلحين سوريين أغلبهم مدنيون بلا خبرات عسكرية، ولا أسلحة حقيقية، ولا تنصر عليهم، ولا تتمكن من تحقيق الأمن لحليفها بشار الأسد ونظامه فتريح وتستريح؟
ترى لو ترفع أمريكا سيفها الظالم عن رقاب الثوار السوريين، وتسمح بتسليحهم وتدريبهم، ألا يلحقون هزيمة منكرة بإيران وحلفائها وخدمها المدججين بأحدث الأسلحة وأكثرها فتكا وتدميرا، وبأطنان مكدسة؟
شيء آخر. رغم كل ما يقال عن سلاح داعش وخبراته القتالية فإنه يبقى حثالة وشلة من الأشقياء الجهلة الحمقى الذين لا يملكون ربع ما لدى مليشيا حزب الله، (وليس جيوش الإمبراطورية الجديدة)، من سلاح وخبرة في القتال. ومع كل ذلك فما زالت الاإمبراطورية تقاتلهم، وتعجز عن سحقهم في أيام.
هل تذكرون ما فعلته الإمبراطورية الأمريكية بدولة كبرى، كالعراق، وجيش عرمرم مسلح ومجرب وعنيد كجيش صدام حسين وحرسه الجمهوري في ساعات؟
هكذا تكون الإمبراطوريات يا سيد يونسي ويا وكالة (مهر). أما امبراطورية قاسم سليماني وهادي العامري فليست أكثر من عجينة زيد في خميرتها ففارت وتمددت واندلقت خارج إنائها العميق.
ومن يدري فربما تدور الأيام، وكثيرا ما أخبرنا التاريخ بأنها تدور، فتنهض ملايين (العربان) الذين شتمتهم وكالة (مهر)، لتجد الإمبراطورية العرجاء نفسها في غير مكانها، ولا زمانها. فتعود، كما عادت من قرون، مهزومة تلعق جراحها، نادمة على غرورها وعنجهيتها التي لا تدوم. إنها امبراطورية تطير، ولكن بلا أجنحة.
821 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع