قـراءة فـي الحب ...

                                     

                            آية الأتاسي

الحب الذي يكتب فيه الشعر وتكتب عنه الروايات ويرتكب باسمه الجنون والاعجاز وحتى الانتحار، والذي تقام باسمه ولأجله صناعة كاملة من الأفلام والأغاني والهدايا والتذ كارات…وأحياناً كلمة واحدة مثل «أحبك»، تكون كافية ليسقط كل شيء في هذا العالم…هذا الحب كيف أختصره في مقالة؟لا أدعي المعرفة ولا الإلمام بهذا الذي يطلقون عليه حباً ولكنني أعرف أن مجرد الكتابة عنه تجعلني في حالة حب خفي ومن هنا أبدأ:

أول الحب


أجمل الحب أوله، فهو بداية العبور نحو الآخر وتفتحنا فيه، يزهر القلب فوق غصن الحبيب ويستوي كثمرة عشق خارج توقيت الفصول السنوية. وتكون تلويحة حب بعيدة كافية لتشرق الشمس على النوافذ المغلقة، وتبدو الأيام مغلفة بالورق الملون، الذي يجعل كل الهدايا ثمينة وهي بعد مغلقة.

لون الحب

وردة الحب زرقاء بعد أن ارتوت من بحر الهوى …وردة تتساقط أوراقها تباعاً في تعاقب ال «يحبني» أو «لا يحبني»…ويضيع بوح آخر ورقة لتبدأ لعبة الحب من جديد…الحب أزرق…كالموجة…كالسماء …وكالقبلة المائية …وكالدمعة المالحة…القلب العاشق هو قلب ملكي أزرق بامتياز.

لغة الحب

تباغتنا اللغة عندما تصف أكثر المشاعر سمواً بالسقوط… فنحن «نقع في الحب» حسب معظم اللغات العالمية، أما في لغتنا العربية فنحن نقع مراراً وتكراراً في عشرات الكلمات التي تعبر عن هذه العاطفة الغامضة، من عشق وهوى وهيام وغراموولع ووله…. الخ، وكأننا لا نقبل أن يختصر أجمل وأعقد ما في هذا الكون بحرفين اثنين هما الحاء والباء.وعندما تلتبس المشاعر على اللغة، يخترع القلب لغته السرية بفصاحة عالية تتجاوز الحرفين إلى القلبين الصامتين!

حاسة الحب

الحب هو حاستنا السادسة، وعندما تستيقظ تصاب الحواس الأخرى بالعطب أو الشلل المؤقت، فيسكت الجوع عندما يمتلئ القلب بالحب…ويرتوي العطش عندما تشرب العين ماء الهوى…ويدخل العاشقان في صمت ظاهر وثرثرة باطنية لا تنتهي، تفضحها أحياناً ابتسامة أو حرف يخرج سهواً من حوار الحب الداخلي.ويصبح للجسد رائحة الحبيب ولرضاب الفم طعم قبلته وللكتف وشم أصابعه، وتغادر كل التفاصيل الشخصية جسد العاشق لتلتصق خلسة بالمعشوق، وكأن نهر الحب، عندما ينسكب في الإناء «الروح»، يصبح له لون الاناء وطعمه، فالماء من لون الإناء، كما قال أبا يزيد البسطامي.

ترمومتر الحب:

لا مقاييس ولا موازيين للحب…فالحب يقاس بما يحدثه في الجسد من دوار، دوار يشبه دوار البحر ولكننا لا نشفى منه بمغادرة السفينة والأمواج، فهو كالندبة أو الشهوة التي تلازمنا حتى الممات.والحب يقاس بما يحدثه في الروح من اختلال، أن «نحب» يعني أن نعيش انقلاباً على كل المسلمات والقوانين والبديهيات، فالحب إن لم يكن ثورة لا يكون.

شهوة الحب

هل نشتهي حالة الحب بحد ذاتها أو نشتهي المحبوب لذاته؟ربما أجمل جواب عن الحب وحاجتنا إليه ما كتبه الشاعر محمود درويش يوماً:«كنت أخترع الحب عند الضرورة، حين أسير وحيداً على ضفة النهر، أو كلما ارتفعت نسبة الملح في جسدي كنت أخترع النهر…»فكثيراً ما يشتاق المرء إلى حالة الحب، لأن يأخذه نهر العشق الأزرق إلى ضفة الآخر، فيصبح للعاطفة شكلٌ وروحٌ، وبعدها لا نعود نعرف من كان المبتدئ عاطفة الحب أم قوام المحبوب، الفاعل أو الموضوع؟أما السؤال الأصعب فهو: أين يبدأ الحب وأين تنتهي الشهوة؟لا حب ممكناً بلا شهوة، فهي شرط ملزم وغير كافٍ للحب.عندما نحب لا نعرف الشبع إلا كلحظة مؤقتة بين جوعين، بينما تنطفئ الشهوة بعد أول اتصال جسدي، فتمضي بلا رجعة.الحب يحتفظ بكل تعرجات الروح وانحناءات الجسد، أما الشهوة فلا تحتفظ بأكثر من القشرة «الجسد» ولا تحفر بعيداً في النفس والذاكرة…وفي النهاية الذاكرة هي الحكم الفصل بين الحب والشهوة، فهي تلعب دور العميل السري للقلب، وتتآمر معه لتسرب من ثقوبها أدق تفاصيل الحب، وكل ما تمحيه الذاكرة وترميه في سلتها الخلفية هو بالنهاية ما نطلق عليه «شهوة»، وكل ما هو عصي على الموت والنسيان فهو» حب».

سياسة الحب

وكما قال ابن عربي: «أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه، فالحب ديني وإيماني»….يبدو أننا في زمن سقوط كل الإيديولوجيات، ما زلنا ندين بدين الحب وما زلنا نؤمن به كسفينة خلاص من الخراب والدمار حولنا، وكأن الحب وحده القادر على انقاذ ما افسدته السياسة في عالمنا.«لا أحد»… التي يستخدمها الطغاة للهيمنة والاستبداد، تصبح باسم الحب عبارة مسالمة ورقيقة ولا أحد إلا الحبيب ولا وجه للحب سواه.و»إلى الأبد» … تفقد كل ما تختزنه في السياسة من استمرار للطغاة إلى ما لانهاية، وتصبح في قاموس الحب مرادفا للإخلاص والوفاء، وبها نبدأ حكاية العشق كل يوم وكأننا نرى الحبيب أول مرة وكأننا سنعشقه إلى مالا نهاية.و»احتلال» … تصبح كلمة محايدة بلا أسلحة وجيوش، فاحتلال القلب هو الاحتلال السلمي الوحيد والمعترف به حسب كل الشرائع والقوانين.وبالحب وحده تسقط الفوارق بين البشر…كباراً وصغاراً… نساءً ورجالاً…فقراء وأغنياء…جهلة ومتعلمين…قتلة وقتلى…الخ، وكأن كل نظريات المساواة والعدالة الاجتماعية تتحقق فعلياً في إحساس واحد يجعلنا لوهلة بشراً أنقياء، متعافين إلا من فيروس الحب الذي لا تنفع معه كل أدوية العقل والمنطق.

آخر الحب

«الحب-أعزك الله-أوله هزلٌ وآخره جِدٌ»، حسب ابن حزم الأندلسيويبلغ الحب آخره عندما يتوقف الالهام وتصبح نظرة العين باهتة ولمسة اليد حيادية، ويغدو الحلم أعرج وبساط الريح ضيقاً لا يتسع لعاشقين، وهكذا يتوقف الحب ويبقى القلب حياً ولكن كثيراً ما يتوقف القلب أيضاً ويبقى حبه حياً…كما في قصص الحب والغرام الناقصة التي خلدها التاريخ لعشاق ماتوا ولم يستطع الموت إكمال حكايتهم.ورغم كل العذوبة في بداية الحب وكل النشوة في قمته فلا شيء يمكن أن يوازي مرارة نهايته، وكأن الحب لا يكتمل إلا بحرقة الألم، مثلما الصلصال لا يكتمل إلا بحرقة النار…ويبقى الأثر واضحاً في القلب مهما مر الزمن، أثر لا يمكن علاجه بمسكنات الصداقة …فما بدأ كحب لا يستبدل ولا ينتحل صفة أخرى…يبقى الأثر فجوة فارغة في القلب …ليست غياباً بل حضوراً يحكه القلب العاشق كلما عادت به الذكرى واستولى عليه الشوق!

٭ كاتبة سورية

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1104 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع