أريد أن أتحدّث إلى الإخوان

                                     

                     د. محمد عياش الكبيسي

إلى جانب الخطاب الإسلامي ظهر لدى الإخوان وبعض اللافتات الإسلامية الأخرى خطاب آخر هو الخطاب الديمقراطي، في عملية معقّدة ومركّبة،

فهم في تكوينهم الداخلي يستندون إلى مقولة (الحق الإلهي)، وفي حراكهم الخارجي يستندون إلى مقولة (الحق الديمقراطي)، مع ما بين المقولتين من تداخلات تستدعي أسئلة كبيرة ومتنوعة في الوسط الإسلامي وفي الوسط الديمقراطي أيضا، فمن الإسلاميين من لا يزال يعتقد أن المشاركة الديمقراطية كفر أو حرام لأنها استفتاء على حكم الله! ومن الديمقراطيين من يعتقد أن الإسلاميين غير مؤتمنين على الديمقراطية بحكم قناعتهم الصارمة
 بالحاكمية الإلهية والشمولية الإسلامية، وأن رغبتهم في المشاركة ليست سوى تكتيك مرحلي للانقضاض على الديمقراطية، وهنا يجد الإخوان أنفسهم مضطرين لإثبات تمسكهم بالحاكمية الإلهية وبالقيم الديمقراطية في آن واحد، وقد أوجد هذا حالة من الارتباك خاصّة مع وجود السطحية والنظرة الأحادية السائدة في مجتمعاتنا اليوم.
هناك أيضا ما يسمى بالتنظيم العالمي، والذي يعني أن هذه التنظيمات ليست تنظيمات محلية أو وطنية، وأن القرار كذلك قد لا يكون محليا أو وطنيا، وهذه إحدى إشكالات التوفيق بين الخطابين (الإسلامي العالمي) و (الديمقراطي الوطني)، مع أن التنظيم العالمي ليس تنظيما بقدر ما هو إطار تنسيقي لا أكثر، فالإخوان في كل دولة يتصرفون بما تمليه عليهم ظروفهم ومصالحهم بغض النظر عن تأثيراته الجانبية على إخوانهم الآخرين، وقد رأينا ذلك واضحا إبان الغزو العراقي للكويت، ثم في انفراد إخوان غزة اليوم بتوطيد علاقاتهم مع إيران وحزب الله، وغير ذلك، وعليه فاسم
 (التنظيم العالمي) لم يعد سوى عنوان بلا مضمون، وعبء بلا فائدة.
وعلى صلة بهذه الإشكالية، فإن وجود تنظيمات إسلامية في دول لم تصل بعدُ إلى (التعدّدية السياسية) ، يشكّل مخاوف جدّية خاصة مع وجود اسم (التنظيم العالمي)، والاعتذار بأن هذه صيغ تربوية ودعوية بعيدة عن السياسة لا يبدو مقنعا، وفي تقديري أن هذه الصيغ خاصّة بالنسبة للمقيمين تشكل خرقا شرعيا أيضا، لأن أصل التعاقد مع هذه الدول قائم على احترام دساتيرها وقوانينها، وهذه الصيغ إن لم تحظ بغطاء قانوني واضح فإنها تعدّ خرقا للعقد، والله يقول: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود)، وهذا أمر ملزم في كل الأحوال مهما كان الطرف الثاني في العقد.
تبقى الإشكالية الأكبر وهي إشكالية الاستناد إلى (الحق) سواء كان الحق الإلهي أو الحق الديمقراطي، في عالَم لا يعترف بهذا الحق، بل هو قد اتخذ قرارا واضحا بعدم السماح لهذا التيار بالوصول إلى الحكم، لا ببندقية (المجاهد) ولا ببطاقة (الناخب)، فالمجاهدون الأفغان الذين ضربوا المثل الأفضل للتجربة الجهادية المعاصرة قد حُرموا من استحقاقهم بمؤامرة عالمية لا تخفى على أحد، وقد اكتفى (المجتمع الدولي) منهم بجعلهم أداة لإسقاط السوفيت لا أكثر، ولقد حقق الإسلاميون في الجزائر تفوقا انتخابيا غير مسبوق وتجاوزوا نسبة %80، فثارت ثائرة فرنسا وهددت
 بالتدخل العسكري، ثم تم الالتفاف على (الحق) وخضعت الجزائر لحمام دم ما زالت آثاره السياسية والمجتمعية والنفسية قائمة، والتسريبات الأخيرة لمكالمات السيسي أزاحت الستار عن حجم التآمر الدولي لإسقاط مرسي والشرعية التي جاء بها! ربما فات هؤلاء الإسلاميين أن الأسباب التي أدت إلى سقوط الخلافة ما زالت كما هي، وأن القوى التي أسقطت الخلافة هي أقوى بكثير مما كانت عليه بالأمس، بينما ازداد المسلمون ضعفا على ضعفهم وشتاتا على شتاتهم، وعليه فالإسلاميون لا يواجهون المنافسين المحليين ولا الأنظمة الحاكمة في بلادهم، بل يواجهون المجتمع الدولي أو
 (الحكومة العالمية)، وأذكر بهذا الصدد أيام التسعينيات حوارا محدودا حول إمكانية تحوّل الأردن إلى (دولة إسلامية) بمواصفات (المشروع الإسلامي)؟ فرأيت الإسلامي متخوّفا أكثر من غيره، لأن إسرائيل لن تسكت على ذلك، وقد تجتاح البلاد بساعات -على حدّ تعبيره- وهذا التخوّف -في تقديري- أحد الأسباب التي جعلت سقف الإسلاميين السياسي ينحصر في (إصلاح الحكومة) تحت ظل العرش الهاشمي، ولذلك نأوا بأنفسهم عن موجة (الربيع العربي) وجنّبوا بلدهم مخاطر الفوضى العامة التي تجتاح المنطقة، وقريبا من هذا الوعي كانت التجربة التونسية التي قرأت الواقع قراءة جيدة
 فآثرت (مصلحة تونس) على (استحقاق الجماعة)، أما التجربة المغربية فهي حالة متقدّمة وتحتاج إلى دراسة مستقلّة.
إن العمل السياسي ليس من الأمور التعبّدية وحتى العمل الجهادي، بل هي أعمال مرتبطة بغايات معلومة، وهي تدور مع غاياتها وجودا وعدما وكيفيّة وأسلوبا، ولذا كان النهي عن المنكر منكرا إذا أدّى إلى منكر أكبر، وأذكر أني احتججت قبل سنوات على أحد الدعاة المتميّزين أنه لا يتطرّق إلى الشؤون السياسيّة فقال: يا أخي نحن لا ننكر أهمية السياسة، ولكننا نرى في حقنا وحق دعوتنا في هذه الظروف (أن ترك السياسة من السياسة)، نقول هذا لأن بعض الإسلاميين يظن أنه إن (قام بواجبه) فهو مأجور بغض النظر عن النتائج، وقد أدّى هذا التصوّر إلى تكرار التجربة نفسها مرّات
 ومرّات مع تكرار النتائج ذاتها دون الشعور بالحاجة إلى المحاسبة أو المراجعة، مع أن شرط العمل في مثل هذه الأمور مراعاة النتائج المتوقّعة ووضع قائمة الاحتمالات والنسبة التقديرية لكل احتمال، أما الاعتذار بالقدر والنوايا الحسنة وما إلى ذلك فهذا تغرير بالنفس وتنصّل عن المسؤولية.
وعودا على نصيحة الشيخ الندوي -رحمه الله- وتركيزه على أن طريق السياسة غير طريق الدعوة، فهذا توجيه لمنهجية العمل الشمولي تحتاجه الجماعات الإسلامية اليوم، فالشموليّة الإسلامية لا تقتضي أبداً وجود (الجماعة الشمولية)، التي تتحمل التكاليف الإسلامية جملة واحدة، فالعمل التربوي مثلا أو الإغاثي أو مؤسسات الإفتاء والتعليم الديني لماذا يتم ربطها بصورة أو بأخرى بالحزب السياسي؟ والعمل السياسي بطبيعته يستدعي الخصومة، وهي خصومة ستنجر تلقائيا إلى المؤسسات والأنشطة الأخرى، ولاحظ هنا كيف تنبّه أسلافنا إلى فصل السلطات (التشريعية والتنفيذية
 والقضائية) في الدولة الإسلامية الواحدة، مع وجود هيبة الدولة، وغياب الخصومة السياسية، فأن تنفصل هذه الأنشطة اليوم ضمن تعددية فعلية ومؤسسات مستقلة مع وجود قدر من المحبة والثقة، أحرى وأولى.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1109 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع