إبراهيم الزبيدي
في تصريح صادم، بل مرعب ومخيف، أعلن السيد السيستاني الحرب المقدسة على الظالمين، والجهاد من أجل الحق، حتى وإن تطلب الامر التضحية بالنفس والمال والعائلة، ثأرا للسيدة فاطمة ابنة النبي محمد وزوجة الامام علي بن ابي طالب، ممن ظلمها وضربها وكسر ضلعها، وهي سيدة نساء العالم، حين كان عمرها 18 عامًا، بالرغم من أن النبي محمد كان يقول إن فاطمة بضعة منه، ومن أغضبها فقد أغضبه، ومن آذاها فقد آذاه.
ولنا أن نتساءل، ضد من هذه الحرب الشاملة؟ ولماذا هذا التوقيت وقوات الحرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني ومليشيات الحشد الشعبي، بقيادة مباشرة من قاسم سليماني، تدخل مدن محافظة صلاح الدين وقراها، وتتهيأ لاقتحام الموصل وباقي مدن وقرى نينوى، ومن بعدها الأنبار؟
ألم يبلغه ما فعلته هذه المليشيات من حملات تصفية جماعية وحرق ونهب واغتصاب بمواطنين (مسلمين طبعا)، من سنة ديالى، أو ممن جاؤوها هاربين من مناطق يسيطر عليها داعش؟ فليس معقولا ألا يكون قد اطلع على تقارير موثقة أصدرتها مؤسسات أممية محايدة تؤكد أن هذه (المليشيات) قد ارتكبت جرائم حرب وتطهير طائفي وعرقي في مدن ديالى.
وللضرورة أؤكد أن هذه المقالة ليست من أجل الانخراط في الجدل الطائفي العقيم والعبثي الممتد من ألف وثلاثمئة وخمسين سنة حول حوادث وقعت في خلافة عمر وأثناء قيام الدولة الأموية، وما رافقها من اصطفافات واختلافات وصدامات وحروب، سياسية وعقائدية، شهدتها الأمة في ذلك الزمن البعيد.
مع التذكير بأن التاريخ لم يحفظ لنا حادثة واحدة تحول فيها سني إلى شيعي، ولا شيعي إلى سني. فالذي ولد أمس، والذي يولد اليوم من طائفة متمسك بطائفته حتى الموت، وفيٌ لما ورثه من آبائه واجداده من مقاييس ومفاهيم حول الدين والطائفة والتاريخ، ولم ولن يتمكن رجل دين ولا سياسي، سواء بجدال التي أحسن أو بالحروب، أن يقنع واحدا فقط من طائفة بأن يتحول إلى طائفة أخرى. وكل حزب بما لديهم فرحون. وهذا ما يجعل الجدال حول صحة مواقف عمر أوفاطمة هداما لا ينتج عنه سوى مزيد من الخلاف الذي يوهن عضد الأمة، ويعطل عقلها، ويُمرض روحها، ويجعلها أشبه بفتات.
ورغم أن شكوكا بحثية كثيرة تحيط بوقوع الحادثة التي يطالب السيستاني اليوم بالثأر بسببها، فقد يكون ذلك قد حدث. ولكن الخليفة عمر لم يبق من ذريته اليوم أحد، كما لم يبق اليوم من ذرية فاطمة أحد أيضا. فلا سنة اليوم هم أحفاد عمر، ومن صلبه، ولا شيعة اليوم، (خصوصا غير العرب) هم أحفاد فاطمة، ومن رحمها أيضا.
كما أن التاريخ لم يسجل لنا أن سنيا واحدا كره أبا بكر وعمرا وعثمان، ولا كره الإمام علي وفاطمة والحسين. ففي صلب إيمانهم أن من يجرؤ على بغض آل البيت، بدون استثناء، يكون قد تخلى عن نبيه، وارتد عن دينه.
على هذا الأساس لن يكون ضحايا حرب السيستاني الجديدة بالنفس والمال والعائلة سوى مواطنين (مسلمين سنة) بسطاء لا ناقة لهم في فريق عمر، ولا جمل في فريق فاطمة، مؤقنين ومقتنعين بأن ما حدث في أيام الدولة الإسلامة الأولى، وفي أيام الأمويين والعباسيين، بعد ذلك، أصبح في ذمة التاريخ، والله وحده الموكل بإحقاق الحق ومجازاة المحسن وعقاب المسيء.
وحين يأمر السيستاني اليوم بحربه الجديدة، وآلافُ المسلحين الهاتفين بالثأر ممن ضرب فاطمة وكسر ظلعها، وممن قتل الحسين، والملتزمين بمرجعية السيستاني التي دعتهم إلى الحرب بالنفس والمال والعائلة، ألم يتوقع أنهم لن يبحثوا، فقط، عمن بقي من آل الخليفة عمر، وأحفاد معاوية ويزيد، ليثأروا منهم لفاطمة، بل سيفعلون بآلاف النساء والرجال والشيوخ والأطفال الأبرياء البسطاء أكثر مما فعله وما يفعله الداعشيون؟
وفي قناعتي، وربما قناعة الملايين من العراقيين والعرب الممتعظين، مثلي، والمشمئزين من إلباس الصراع السياسي العسكري الجاري هذه الأيام لبوس الدين والطائفة، ونبش التاريخ، واستنهاض الأحقاد التي ظننا أنها ماتت، أو نامت وعفى عليها الزمن وأصبت من آلام الماضي البعيد وأحزانه ومآسيه، في عصر جديد أجبر أمما، كانت متناحرة، على التصالح والتسالم والتعايش وتبادل المصالح وطي الأحقاد الدينية والعرقية القديمة، والعمل على إقامة عالم جديد يسوده الأمن والسلام، وليس فيه مكان لأفكار وعقائد تبكي على نصف الكأس الفارغ، ولا تفرح لنصفه المليء.
وماذا عن سُنة ولدوا سُنة، ثم تحضروا وتنورا وتخلصوا من العصبية الجاهلية لسُنتهم ولأية طائفة غيرها؟ هل يحق لأجناد قاسم سليماني وهادي العامري أن يُعملوا فيهم وفي عوائلهم الآمنة سيوف الكره الأعمى والفهم الخاطيء للدين والطائفة كما فعلوا ويفعلون؟
لا أحد، سواء من السنة أو الشيعة، يخوض حربه الحالية بالأسلحة المدمرة والجيوش المتدافعة، نصرة لدين أو لطائفة. وبعبارة أكثر وضوحا، لا أحد يصدق أن إيران، وأحزابها ومليشياتها وأموالها، تندفع في العراق وسوريا ولبنان واليمن والبحرين رغبة في إنزال حكم العدالة على من اعتدى على فاطمة أو قتل الحسين. ولا أحد أيضا يصدق أن الجبهة السنية المقابلة (وداعش بالأخص) قامت دفاعا عن الخليفة عمر أو معاوية أو يزيد.
مع التذكير بأننا لو عدنا إلى أصل التشيع لوجدناه عربيا خالصا نشأ بدوافع سياسية خالصة بين فريق أراد احتكار السلطة الدينية والدنيوية، وفريق آخر نهض ضده رافضا ومطالبا بحرية الاختيار، ثم تلقفه غلاة الفرس وحولوه إلى حزب سياسي يمكنهم من تحقيق انقلاب عسكري على دولة الخلافة (العربية)، وتنصيب خليفة من أصول فارسية، أو عربي تلتقي مطامحه السلطوية مع مصالح القوميين الفرس، أيام عمر وعثمان وعلي ومعاوية ويزيد. وقد حفظ لنا التاريخ أن القادة الحقيقيين لكل الحركات والتجمعات التي أسقطت الدولة الأموية وهيمنت على الدولة العباسية كانوا من الفرس، إلى أن نكبهم هارون الرشيد.
لم يكن منتظرا ولا مقبولا أن ينزل رجل دين بحجم السيستاني من مقامه الرفيع ليصبح داعية حرب جديدة، ورجل سياسة لا يختلف عن قاسم سليماني وهادي العامري بشيء.
ألم يتوقع، وهو المكلف من الله ورسوله وآل بيته بالدعوة إلى السلم وإلى وحدة الأمة وإلى إحلال العقل والحكمة والحوار محل السيوف والخناجر والمفخخات وحديث الثارات العقيم،أن تتلقف إسرائيل والقوى التي يسميها (إستكبارية) العديدة الساعية إلى تمزيق ما لم يتمزق بعد، وتهديم ما لم يتهدم بعد، وقتل من لم يُقتل بعد، وأن تصب على النار التي أشعلها داعش وإيران، معا، مزيدا من الزيت والحطب لئلا يبقى حجر ولا بشر في بلاد الله ورسوله وآل بيته؟ أهذا ما يريده السيستاني؟
وحتى لو سلمنا بأن مظلومية الشيعة من مظومية السيدة فاطمة والإمام الحسين، فهل يسمح الشرع والعقل والأصول أن يتحول المظلوم إلى ظالم، وأن يجعل الوازرة تزر وزر أخرى؟
وختاما، ألا يكفي ما حل بهذه الأمة من مصائب مستحدثة لنضيف إليها مصائب أخرى من أعماق التاريخ البعيد؟. ليس هذا وقتها ولا ظرفها ومكانها؟. ألا تعقلون؟!
853 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع