د. علي محمد فخرو
من يستطيع أن يضمن لأمة العرب أن قرار حكومة الولايات المتحدة الأميركية بتدريب عشرين ألف من شباب سورية لن يخرج المارد مرة أخرى من القمقم؟ ذلك أن تجربتنا مع نظام الحكم الأميركي، بشقيه الديموقراطي والجمهوري، يجسد ماقاله شاعرهم روبرت فروست: لا شئ في الوراء ننظر اليه بكبرياء، ولاشئ في الأمام ننظراليه بأمل».
ففي الثمانين من القرن الماضي جندت وكالة الاستخبارات الأميركية الشباب العرب ودربتهم بمال بعض حكومات وأغنياء العرب، ثم ألقت بهم في جبال ووديان أفغانستان ليحاربوا عدوها الاتحاد السوفييتي باسم الاسلام. حتى اذا ماسقط الاتحاد السوفييتي في براثين تلك المؤامرة وتمزق اربا خرج جنين الجهاد العنفي من القمقم مكان القاعدة. وكانت النتيجة دمار أفغانستان ودخول أمة العرب في جحيم حقبة الجهاد التكفيري العنفي القاعدي الذي يمتد باضطراد الى يومنا هذا ليأكل الأخضر واليابس، وهكذا خسر العرب والاسلام وربحت أميركا وحليفتها الصهيونية.
وفي بداية التسعينات من القرن الماضي حركت أميركا ماكنتها الاعلامية العولمية لتمارس كذبة القرن الكبرى، من أجل أن تبرر لنفسها وللمخدوعين ممن تبعوها، بأنها تحتل العراق لحماية العالم من وهم أسلحة الدمار الشامل التي يمتلكها ولتدشن من خلال ذلك الاحتلال حقبة دخول العراق وبقية العرب في جنة الديموقراطية. ولكن بدلا من حدوث ذلك ارتكبت ألف حماقة وحماقة، فدمرت جيش العراق الوطني، وأقامت ديموقراطية طائفية متصارعة مجنونة، وسلخت شمال العراق تمهيدا لتفتيته. حتى اذا ما أنهت دورها التآمري في العراق وتركته جيفة عفنة في قبور برابرة التاريخ خرج من القمقم الذي زرعته المارد التكفيري الداعشي، وها هو ذلك المارد قد احتل ثلث العراق وقتل من قتل بغير وجه حق، ونهب من نهب بلا ذرف دمعة واحدة، وسبى من سبى من حرائر العراق بلا حمرة خجل أو تقوى من رب العالمين. واليوم تعود أميركا لاحتلال العراق باسم محاربة المارد الذي خلقته من بعد ماخلقت أباه، بينما هو يكبر ويقوى في بقاع العالم كله.
وفي بداية تفجر ثورات وحركات الربيع العربي أقنعت أميركا العالم بضرورة السماح لحلف الناتو بالتدخل العسكري المباشر لانهاء عصر الدكتاتور القذافي ونقل ليبيا الى جنة الديموقراطية، دون القيام بدرس الخصوصية القبلية الليبية ومايمكن أن ينتج عنها بعد انتهاء دمار الحرب وتمزيق مؤسسات الدولة الموجودة. وهكذا فما أن تمت عملية «انقاذ» ليبيا بقيادة أميركية من وراء حجاب حتى خرج من القمقم أشكال من أبناء مارد القاعدة، بالبسة قبلية وصيحات جهادية تكفيرية مجنونة. ومرة أخرى استبدل وضع سيئ بوضع أسوأ منه قد ينتج عنه انحلال الدولة الليبية لتصبح هي الأخرى جيفة نتنة، تماما كما حدث للعراق المنهك التائه في ظلمات الطائفية.
ومن قبل ذلك، وفي قمة تلك القائمة من الكذب والاغواء وادعاء الفضيلة، سحبت أميركا القضية الفلسطينية من تحت جناح وسلطة هيئة الأمم واهتمامات دول العالم لتضعها في يد لجنة رباعية هي من صنع يدها وتأتمر بأمرها. والنتيجة في هذه المرة هي خروج المارد الاستيطاني الاستعماري الصهيوني من القمقم، بمباركة ودعم أميركي، وامعانه قضما لمزيد من الأرض الفلسطينية وتدميرا لذاكرة العالم حول أصول الموضوع وبداياته من أجل قبول أساطير يهودية الدولة التي رسخها المارد الصهيوني المجنون في عقل خالقه الأميركي الذي هو الآخر مسكون بأوهام توراتية أصولية مختلقة.
بغض النظر عن المواقف تجاه الأنظمة العربية التي سقطت أو التي يجب أن تسقط، وعن مختلف التحالفات الأمنية والسياسية بين بعض الحكومات العربية وأميركا لأسباب لا حصر لها ولاعد، بل وحتى بعيدا عن استحضار قيم الحق والعدالة والانصاف التي داست عليها أميركا باسم مصالحها القومية وتبنيها الأعمى للمنطق الصهيوني وهلوساته، وبالرغم من احترامنا الشديد لانجازات الشعب الأميركي الكثيرة في شتى الحقول، فان من حقنا أن نطرح السؤال التالي: هل أن دولة ارتكبت أمثال تلك الأخطاء والخطايا، وغيرها كثير، يمكن أن تؤتمن على نواياها الأخيرة في سورية، وأنها لن تنتهي باطلاق مارد عنفي قاعدي وداعشي جديد من القمقم السوري؟
من المهم طرح هذا السؤال على الأخص على الدول العربية التي ستمول المشروع الأميركي أوستحتضن مراكز التدريب على أرضها، خصوصا وأنها لن تكون لها كلمة واحدة في مكونات ونتائج ومصير هذه المغامرة الأميركية.
دعنا نذكر أنفسنا بقول للفيلسوف الاسباني ميجيل دو أنامونو بأن «الحياة هي الشك، وأن ايمانا بلا شك هو الموت بعينه». نحن ندرك مقدار الثقة الايمانية في أميركا من قبل الكثير من الدوائر الرسمية العربية، لكننا نعتقد أنه قد آن الأوان لادخال ذرة من الشك في نيات الولايات المتحدة الأميركية التي ما أقحمت نفسها في أية ساحة عربية، وعبر قرن كامل، الا وأحالتها الى أرض يباب وجعلت من ساكنيها اما لاجئين هائمين على وجوههم في المخيمات والمنافي أو أمواتا في القبور الجماعية.
ان الشاعر الألماني غوته يقول بأن «الشك ينمو مع المعرفة»، أما زلنا نحن العرب، بعد كل تلك الويلات، لا نعرف أميركا، مخرجة مردة الجن من قماقم التكفير؟
905 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع