زيد الشهيد
الحاجةُ محاولةُ ملئ الفراغ .. سعيٌّ لدخولِ الأفكار حيّزَ التطبيق . والحيّز مدىً مكاني تشغله مفردات وجودية لها أبعادٌ تُقاس بمديات قناعة الذات ... حين تجد الذات أنَّها باتت راضيةً عن نجازةِ تلبيةِ الحاجة يكون الفراغُ قد امتلأ . عندها تستحيلُ مفردةُ الفراغِ إلى نقيض لها بالمعنى ، فينبثق الامتلاء ، ويغدو الفارغ ممتلئاً .
النجازةُ عمليةُ تكريسِ الامتلاء .. صيرورةُ انتهاءِ الفراغ . وبناء على مبدئية ( نفي النفي ) يأتي الامتلاءُ من رحمِ الفراغ لكنَّه يتكرَّس نقيضاً فيتشكَّلا قطبين متناقضين ..
الفراغُ في أحد أوجهه بعدٌ مكاني مؤطَّر بزمن .. لا يوجد مكانٌ لا تشيعُ فيه رائحةُ الزمن .. الزمنُ يشيع في فضاءِ المكان مستحيلاً مُعادلاً موضوعياً للفراغ . وهنا يغدو الفراغُ كينونةً زمكانيةً تحتاجُ إلى أداةِ تكريسِ ما بعد تواجده ؛ أي تلغي هويتهُ لزمكانيةٍ أخرى نقيض لها تحملُ هويةَ الامتلاء ..
منذ الأزل شغل الإنسان هذان التوجهان المترافقان المتوازيان .. كانا له بعدين لهما ارتباط جدلي في استمرارية تأرخته وإعلانه أنه : أنجزَ هنا فملأ ، وتقهقرَ هناك ففرغ ، وسط صراع ديمومي مع قوى تهدده بالفراغ بينما يقارعها بالامتلاء .. فمسلة ( صيد الأسود ) التي ترينا شخصاً يصرعَ أسداً خلفه ويُنبت ثلاثة أسهم في رأس أسدٍ ثانٍ ثم يرمي سهماً آخر من قوسه لأسد ثالث مهاجم تمثل زمناً سومرياً يكشفُه الوجه الملتحي والشعر المسترسل على الكتفين مربوطاً بما يُشبه العقال فيما الثوبُ يهبط أدنى الركبتين والحزامُ العريض يشدُّ الخصر ، وهي صفاتٌ ظاهرة تضعنا على مصافي عهدٍ ما زال بعيداً عن الميلاد بما يزيد عن ثلاثةِ آلاف عاماً كان فيها الإنسانُ لا يهدأ ، ولا يركن إلى السكون .. حياةٌ مشغولةٌ بالديدن اليومي للعمل خروجاً من ربقة الفراغ الباحث عمّن يملؤه .
الزمنُ محفِّز فعّال لخلقِ الضرورةِ الناحية باتّجاه الامتلاء تجاوزاً للفراغِ حيث الفراغُ كثيراً ما يعهد بعدَّتِه إلى حالةِ السأمِ ليطيحَ بهيبةِ الامتلاء .. الفراغُ حين يطول زمنُه يخلق مبرراتِ الضجر . يتناسلُ صيرورةً شعوراً بالتذمر / إحساساً بالضيق .. من هنا ، وبلا هوادة يدعو بودلير الخائضين في سديم الوعي الفائر على الدوام ، أولئك الرافلين على أديمِ الأسئلةِ المتناسلة عن الجدوى أو اللاجدوى والزمن اللايرحم إلى الامتلاء ، تجاوزاً لهيمنةِ الفراغ وسطوته وجبروته ، يدعوهم إلى أن يسكروا ، إلى أن يتجاوزا الركود ، إلى أن لا يركنوا إلى اللامبالاة ظنّاً منهم أنَّهم بفعلتِهم هذه ستأخذُهم أعاصيرُ الفراغ إلى بِطاح راحةِ البال أو جنائن السهو .. إنه يخاطبُ حاملي الوعي المتجيّش عند جبهةِ الأسئلة إلى أن يسكروا سكرَ الولوج إلى مدنِ الاكتشاف والتفاعل الديدني.. المدنُ التي تعرض عليهم فنونَ الإبداع وتنده بهم إلى الاحتراقِ من أجل الخلقِ القويم (( فلكي لا تشعروا بعبء الزمنِ الفادح الذي يحطم كواهلكم ويحنيكم إلى التراب ، لا بدَّ لكم من أن تسكروا بلا هوادة )) ، ويضيف متسائلاً : (( ولكن بماذا ؟ بالخمر أو بالشعر أو بالفضيلة ، بحسب ما تهوون . ولكن اسكروا . )) ص108 سأم باريس .. إنها دعوة للامتلاء تخلصاً من الفراغ ..
الفراغ والذات
قد يبدو الفراغ من نافلة التوجّه نحو تدميرِ الذات بغية الامتلاء .. الامتلاء الذي يظنه الضائع في دروبِ الأفكار الفارغة نوعاً من الخلق المُثمر دون الرسو على النتائج التي قد تنبثقُ مدمّرةً تُطيح بهيبةِ الاثنين ( الفارغ والممتلىء ) .. نتائجُ لا يمكن إلا أنْ توصف بالعبثِ الماحق الذي يصنع أضراراً لا قِبل للبشرية على تحمُّلِها ولا الإنسانية على استيعابِها .. فراغٌ أبجديته القتلُ والدمار / التخريبُ والدم / البغضُ والكراهية / التجاوزُ على الآخر والاعتداءُ بجنونٍ وصولاً إلى الامتلاءِ السادي ، ظنّاً من مالئي هذا الفراغ أنهم يرسمون سيرةَ العصر الأمثل . عن هذا يكتب أدونيس واصفاً مدن الفراغ العبثي لهؤلاء الرماديين (( عندما زرتُها كان النهار قفصاً ، وكان الضوء يتأوه . غير أنني كنتُ أتعلَّم كيف يكون البكاء أحياناً حبراً للفكر ، ومادةً للعمل ، وكيف يغطُّ البشرُ أقلامَهم في محابر الموت ، من كل نوع ، ويكتبون سيرة العصر . )) .ص123 [ الكتاب الخطاب الحجاب (..
في الإسلام يتكينن الفراغ خاتمة لحركية يومية تمتلىء فيها حاجات المسلم بانغماره في عمله المادي اليومي ليمتلىء بالمعنوي الروحي الذي يجعله قريباً من جوهر الدين الذي هو الفبائية الوصول إلى الله .. فهو الله يخاطب مسلمه (( فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب )) .
في الديانة المسيحية يدعو الرهابنة والسائرونَ على دربِ السماحة أتباعَ المسيح ومحبّيه إلى (( الامتلاء بالروح )) وهي دعوة صوفية تدفع المؤمنَ بنبيِّهِ إلى أن يمتلىء بروحه السَّمِحة نأياً عن الفراغ الذي قد تملأه الكراهية أو التجديف . الامتلاءُ بالروح عندهم وعيٌّ بحبِّ الخير ، بنبذِ ما يؤلِم البشر ، بخلقِ انسجامٍ حييٍّ وعاطفةٍ مُدافة بالحميمية . لذا يستحيلُ الامتلاءُ عندهم إيماناً والفراغُ جحودا ..
الناص والنص
عندما ينتهي الناص من تدوين نصٍّ ويتلقّاه القارىء بلذاذةٍ ، رافلاً على ثراه بمتعةٍ فانَّ ذلك يغدو مبعث سرور يحقق فيها الناص الامتلاء في الكتابة ، والمتلقي بالقراءة . ويصبح النص ممتلئاً ليس على غرار النص الذي تتعثر ذائقةُ التلقي في تناوله فيستحيل محطةَ امتعاض وانطلاقة تذمّر تُقر بفراغه ولا أهميته .
.. في مضمار السرد ملأ كافكا فراغاً كان يكتسح يومه ويتضخَّم عند مراتب انفعالاته متجاوزاً متواليات النكوص النفسي والتقهقر الروحي بالكتابة .. كانت الكتابة بكلِّ إبعادِها الهلامية والهيولية تملأ فراغه ، مستلاً منها ما هو كابوسي / ضجري / كاتم كاستعانةٍ تجعله يضئِّل نسبةَ الفراغ فيكبر قَدَر الامتلاء ، مستعيناً بالقلمِ والورقة تنفيساً لضجيج الانفعالات وهياج الوعي المتفاقم ... وفي التشكيل كان على ليوناردو دافنشي أن يملأ فراغ لوحة ( الجيوكندا ) بعد أن انتهى من تكريس " الموناليزا " " شكلاً " مهيمناً على المكان .. كان عليه أن لا يملأ الفراغ بما يُسلب عينَ الناظر من شخص " المونا " .. أراد الفراغَ إكسسواراً لا غير .. خاف على العين أن تهرب من سحر " شكله " حين تقف – أي العين – تتملّى .. شكَّلَ الفراغ هنا هاجساً لا بدَّ أنّه أقضَّ مشاعرِ الفنان الذي جهِد على جعلِ العين لا تغفَل ولو للحظةٍ واحدةٍ عن " المونا " . لذا رمى على الفراغِ الجبالَ والضبابَ والدكنةَ القهويةَ الثقيلةَ ، فبرز الامتلاءُ في امرأةِ اللوحةِ وتركَ الفراغَ يمثّل وجودَه فراغاً وإن هو سعى لملئه ..
لدى الانطباعيين من امثال مونيه وبيسارو ورينوار وسيسلي وادغار كان الامتلاءَ لوناً ، هشَّم الفراغ وأطاحَ بهيبته . منح البهرجة بالامتلاء على حساب الفراغ الذي قد يظنه المتطلِّع فراغاً لا غير . حاوروا المكان صباحاً ليجيئوا إليه ظهراً ، ومساءً فينتجوا نصوصهم التشكيلية من نفس البقعة ، من ذات المكان مقدّمين التأثير الزمني / الضوئي عليه؛ وهي محاورة أنتجت نظريةً استمرت محببّة ومرغوبة لعقود عديدة أساسها الامتلاء باللون ..
قد لا تجد في النص التشكيلي عند الانطباعيين _ ولا سيما مَن أحبوا الطبيعة والريف من أمثال بيسارو وسيسلي - امتلاءً بشرياً لكنك تراه شيئيّاً فاعلاً ، مُفعم بالديمومة الضاحّة بالحياة ، تمنحه الأشجار بانتصابها الشامخ ، والبُركة بهدوئها العذب ، والسماء بما تستطيع من دخول على اللوحة بغيمة بيضاء أو صفاء لازوردي ، والقنطرة بانتظارها الشغيف أقدام عُشاق أعلنوا موعداً في منتصفِها ، وقرروا في لحظةِ هيامٍ أن تكون – تلك القنطرة – شاهدةً على عشقٍ تتداخلُ فيه الأنفاسُ الحرَّى الولهى وتمتزجُ لتخلقَ روحاً موحَدّاً .
تضاد الامتلاء .. الفراغ
في الوقت الذي نجيزُ للفراغ أن يُزاح ليأخذَ الامتلاءُ حيزَه ؛ وفي الآن الذي يشعرنا الامتلاء بنجاح المسعى في التغلب على الفراغ تُجبرنا الحاجة على التخلّي عن الامتلاء لتحقيق الفراغ دون خسارة ؛ بل شعور بالارتياح ، وهي مُحصِّلة قد يتبادر لذهن الرائي أنّها مبعثُ غباء أو تحسسُّ بلادة ، لكنَّ الحاجةَ تفرض مسبباتِها لإقرارِ النتائج . هذا ما يحصل للعقل الباطن حين يمتلىء . آنذاك تنبثقُ حاجةُ الإفراغ فتصبح حتميةً .. إنَّ علم النفس يعلِّمُنا أنَّ العقلَ الظاهر لحظةَ إقراره بعجزِ حلِّ مشكلةٍ - تنتصب أمامه - يدفع بها إلى الوراء / إلى مملكة العقل الباطن / إلى حيث التخزين في فضاء الحجيرات فتملأها .. يتحقق الامتلاء وفق فرضية ضرورة الإفراغ . أي أنَّ الممتلىء يصار إلى مَن يحقق الفراغ . وهذه مهمّة تناط بالأحلام ساعة هدوء أوار العقل الظاهر وابتداء نشاط العقل الباطن ... تتبدد جزئيات الامتلاء بصور حلمية ، برقية خاطفة ، متسارعة بلا أواصر .. أي مشتتة ، مبعثرة . همُّها أن تبرح مكامن الاحتدام ، أن تخرج من زحام الامتلاء ؛ فإذا بالنهوض بعد النوم صفاءٌ ، وإذا التوجّه إلى مصافي الصحو نعيم ...
امتلاء يقود إلى فراغ ..
الامتلاء تنــوِّع
الامتلاء عند النبات ماء ، ونمو ، وثمر ؛ والفراغ جفاف ويباس .
الامتلاء عند الحيوان إشباع غريزة والفراغ جوع قاتل .
الامتلاء لدى البشر نجاح يقود إلى سعادة ؛ يتلبسون لبوس الظفر بينما الفراغ لديهم لافتة للهامش غير المجدي أو هو نوع من أنواع الفشل إن صح التعبير .. لهذا يهرب البشري من الفراغ / الفشل هروب الملتاع المتطيّر إلى النجاح / الامتلاء كشوق التائق الشغوف . ألم يقل الفيلسوف الإغريقي آخيلوس القادم من القرن خامس قبل الميلاد (( البشر لا يشبعون مطلقاً من النجاح )) ؟.. هروب البشري صوب الامتلاء يأتي جرّاء خشية على مصير يترجمه مجهولاً مهما انهالت عليه الأديان بالمواعظ وأمطرت عليه الحكم كواكب من نور ، واعدةً إيّاه بجنان خُلد لا انتهاء لها .. هروب البشري من شبح الفراغ الذي يعني تلاشيه يكرّسه هلعاً الشعور بمقدم الموت (( خُلق الإنسان هلوعا ، إذا مسّه الشر جزوعاً ، وإذا مسه الخير منوعاً – قولٌ كريم - )) .. يبغي الامتلاء ( الحياة ) منعاً لتذكّر الفراغ ( الموت ) تشيثاً بأمل مجهول في مد ديمومي مبهم . ولمنع هيمنة الشعور بالفراغ تسعى المناشيء التعليمية الإنسانية إلى إشاعة جو الأمل انسلاخاً من جثومية الألم .. ما زلت أتذكر المقولة الأملية (( قل امتلأ الكأس نصفه ، ولا تقل فرغ الكأس نصفه )) التي كنّا نتلقاها في المدرسة كموضوع إنشائي يدعو إلى التفاؤل ( الامتلاء ) لا إلى التشاؤم ( الفراغ ) .. ما زلت أتذكر ذلك الطالب الشجاع في المرحلة المتوسطة الذي راح يتحدث عن الفراغ في الكأس متجاهلاً الامتلاء منه ، مناقضاً دعوة مدرس العربية الذي عاقبه بدرجة هابطة بعذر أن إجابته خاطئة من جذرها مع أن ما كتبه ذلك الطالب أفضل بكثير - لغةً وأسلوباً - مما كتبناه نحن .. لم يكن ذلك الطالب يشعر بالامتلاء في الوجود بل عبّر عن الفراغ في ما نعيش (( هل كان المدرس رافضاً فعلاً ومن خزين مشاعره وأعماقه لفحوى ما أفصح عنه زميلُنا الطالب أم كانَ يوافقه الرأي في الفراغ بيدَ أنّه لا يبغي إشاعة الألم النابع من اللاجدوى التي شعر بها الطالب قبل غيره من الطلاب ؟ )) .. إنها معضلة الفارغ والممتلئ التي لا تنتهي .. إنها الجدلية الأزلية ، والحتمية القادمة .
907 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع