خالد القشطيني
من الصفات التي تميز بها اليهود عالميا بُعد نظرهم. ولا شك أن ذلك يعود لامتهانهم مهنة التجارة والمضاربة بأسعار البضائع في السوق والأسهم في البورصة. يتطلب كل ذلك حساب التوقعات المحتملة للسوق بدقة.
وقد انعكس ذلك على تفكيرهم وتراثهم، بل وحتى على سلوك إسرائيل. وكل ذلك مقابل ما ابتليت به الشعوب العربية من قصر النظر الذي نلمس نتائجه في كل هذا الإرهاب المتفشي بينها عشوائيا.
كلما ألتقي بيهودي عراقي في لندن يبادر فيقبلني ويعانقني ثم نتبادل الكلام فيقول لي إنهم قرروا الهجرة من العراق في الخمسينات لأنهم توقعوا ما سيجري فيه من نكبات ومن اضطهاد للأقليات. وأعترف بأنني شاركتهم هذا الشعور فركبت الطائرة في الخمسينات أيضا ورحلت فلقبوني بطير النورس الذي يشم العاصفة فيطير بعيدا.
وكما قلت، انعكس بُعد النظر هذا في تراثهم أيضا. ورد الكثير منه فيما يسمى بالنكتة اليهودية التي تشكل فصلا كبيرا من أدب الفكاهة، الفكاهة اليهودية. يقوم الكثير منها على اللقاءات والحوارات التي تجري بين المسافرين اليهود الأشكنازيين في القطارات. فالسفر المضني على خطوط السكك الحديدية الطويلة في أوروبا الشرقية لا بد أن يجر المسافرين لتبادل الكلام والحوار. والحكاية الطريفة التالية تعكس روح بُعد النظر هذا في أبلغ صورها:
وجد أحدهم نفسه أمام مسافر يهودي آخر. وبعد مرور شيء من الزمن خطر له أن يسأله: «رجاء، كم الساعة الآن؟». نظر هذا الرجل الثاني «أ» في وجهه مليا ولم يجب عليه. اضطر الرجل الأول «ب» أن يعيد سؤاله: «رجاء، ممكن تقول لي كم الوقت الآن؟». لم يجب عليه. انتظر بضع دقائق وأعاد السؤال مرة أخرى. ولا جواب. تضايق «ب» من هذا السلوك فقال له «سألتك 3 مرات عن الوقت ولم تجبني. لماذا لا تجيبني ولديك ساعة في يدك»؟
فرفع «أ» رأسه وقال له «ولماذا أجيبك؟ إذا أجبتك ستعود وتسألني، يعني هذا مضبوط؟ أقول لك نعم. ساعتي مضبوطة. فتسألني عن ماركتها، ثم من أين اشتريتها، وكم كان ثمنها. ويجرنا الكلام للكلام ويتشعب فندخل في موضوع تجارة الساعات وصناعاتها. لا نصل محطتنا النهائية ولا نغادر القطار إلا ويكون الكلام بيننا قد تعمق واسترسل فتدعوني لتناول القهوة معك في المقهى. ألبي دعوتك الكريمة ولكنني أضطر للرد عليها بدعوتك لتناول البيرة معي في بيتي. تأتي لزيارتي وإذا بك تصطحب ابنك معك. وأنا لديّ ابنتي، شابة حسناء في البيت. تأتينا بصينية البيرة فيتعرف بها ولدك ويبادلها الكلام ثم الغرام. يدعوها للسينما وتنشأ بينهما علاقة حب تفضي لخطبتها وزواجه بها. وبذلك أكون يا سيدي أنا المسؤول عن زواج ابنتي بشاب والده لا يملك من الفلوس ما يشتري به ساعة يضعها على يده وتكفيه سؤال الناس عن الوقت»!
طرفة يهودية تعبر عن هذه الروح، روح الحرص على بُعد النظر وحساب المستقبل.
1077 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع