د. محمد عياش الكبيسي
أريدُ أنْ أتَحَدّثَ إلى الإخوان "1-2"
قبل أكثر من ستين سنة، زار الداعية الكبير أبو الحسن الندوي مصر، وتعرّف عن قرب على جماعة الإخوان المسلمين ومنهجها في العمل، وكان من ثمرات تلك الزيارة رسالته الموسومة (أريد أن أتحدّث إلى الإخوان). في تلك الرسالة أشاد الندوي بما قدّمته هذه الجماعة في ميادين التربية والتوعية ومشاريع الخدمة والإصلاح، ثم تحمّل مسؤوليته بأمانة وصدق وراح يضع يد الإخوان على الثغرات التي يُمكن أن يُؤتوا من قِبلها.
وأشاد الندوي بدعوة الإخوان حيث قال: (اجتمع لهذه الدعوة ما قلّما يجتمع للحركات الدينيّة من قوّة الإيمان وقوّة العمل والعلم العصري والتنظيم الحديث). وفي مؤسسها الشيخ حسن البنا -رحمه الله-: (شخصية فريدة.. يجمع بين الفهم الواسع للإسلام والغيرة الملتهبة عليه والنشاط الدائم والعمل المتواصل لإعلائه والخطابة الساحرة والشخصية الجذّابة..).
وفي نتائجها التي شاهدها ولمسها على أرض مصر: (فتشجّع الناس وأصبح الدين في هذا البلد شيئا لا يخجل منه المثقفون والمتظرفون، وبدأ الناس يصلّون في المقاهي والنوادي والولائم وقارعة الطريق بعدما كانوا يستحيون من ذلك).
هذه الإشادة أو الشهادة من عالم بوزن الندوي لها اعتبارها، وحق للإخوان أن يفخروا بها وأن يعلّقوها وساما على صدورهم، بيد أن الأهم من هذا هو كلماته في مجال النصح وإبراء الذمّة.
إن المحور الأساس في نصيحة الندوي كان الموقف من (الحكومة) وسعي الإخوان إليها باعتبارها وسيلة متعيّنة لتطبيق الشريعة وإعادة (الدولة الإسلاميّة) بعد أن اختفت بسقوط الخلافة.
ومفتاح هذه النصيحة قوله عن دولة الإسلام الأولى: (ولم تكن هذه الحكومة قط غاية من غاياتهم، أو هدفا من أهدافهم، أو حديثا من أحاديثهم، أو حلما من أحلامهم، إنما كانت نتيجة طبيعية للدعوة والجهاد كالثمرة التي هي نتيجة طبيعية لنموّ الشجرة وقوّة إثمارها.. وفرق كبير بين الغاية التي تُقصد والنتيجة التي تظهر)!
هذه الفلسفة العميقة بحاجة إلى وقفة أو وقفات طويلة، إنه لا ينكر الحكومة الإسلامية التي تأخذ على عاتقها إقامة العدل وتطبيق الشرع، لكنه يعدّها ثمرة لا غاية، ثمرة للجهود الطويلة في الدعوة والتربية لتكوين المجتمع المسلم، وبعد هذا سيسعى هذا المجتمع بتلقائيّة لإقامة الإسلام وتطبيقه في كل شؤونه، وهو من أجل هذا لا بدّ له من حكومة منبثقة عنه تتكفل بتنفيذ ما يؤمن به ويسعى إليه، وهكذا يكون تشكيل الحكومة المسلمة نتيجة طبيعيّة لتشكيل المجتمع المسلم، أو هو (الجائزة) الربانية على حد تعبيره.
وبعد هذه المقدمة يصل الندوي إلى لبّ نصيحته: (لأن أساليب الوصول إلى الحكومة تخالف أساليب الدعوة، فيجب علينا أن ننقي عقولنا ونفوسنا ونجرّدها للدعوة، والدعوة فحسب، والخدمة والتضحية والإيثار وإخراج الناس بإذن الله من الظلمات إلى النور.. ثم الشفقة على الخلق والرحمة بالإنسانيّة المعذّبة والحرص على نجاة الإنسان). إنه هنا يحدد واجب الجماعات الإسلامية بدقّة، إنه ليس فرض (الحكم الإسلامي) بل تكوين (المجتمع الإسلامي)، وبالتالي فمسؤولية الحكم الإسلامي هي مسؤولية (المجتمع) وليس مسؤولية (الجماعة).
ثم ينبّه إلى خطر داخلي سيواجه الجماعات الساعية إلى الحكم، فيقول: (وخطر على كل جماعة تتكوّن عقليتها بحبّ الحكومة والسعي لها أن تقعد عن الجهاد في سبيل الدعوة أو تنحرف وتزيغ في قصدها)، (فالذي يقصد الحكومة يتوانى ويقعد إذا لم ينلها أو انقطع أمله فيها)، وهو هنا يضع إصبعه على موضع الداء والبلاء الأشد، فالجماعة التي تتصدّى للحكم فتفشل فيه أو لا تتمكن من الوصول إليه فإنها ستخسر كذلك موقعها الإصلاحي ودورها الدعوي والتربوي!
هذه الرسالة المدوّنة بتاريخ 9/6/1370هـ وأنا اليوم في 3/5/1436هـ أعيد قراءتها وأستعرض تجارب الإخوان في العمل السياسي أو ما أسماه الشيخ (السعي إلى الحكومة) خلال كل هذه العقود، ولا أدري إن كان الإخوان يشاركونني في أهميّة قراءة هذه النصيحة وجعلها مفتاحا لمراجعة منهجية شاملة تعيد صياغة (من نحن؟) و (ماذا نريد؟) و (ما هي أولوياتنا؟).
الشيخ لم يكن علمانيا ولا متأثّرا بالأفكار العلمانية، إنه ينطلق من عقيدة الإخوان نفسها وفكرتهم ونظرتهم (الشمولية) للدين والحياة، أقول ذلك لأن بعض شباب الإخوان تنامت عندهم حساسية شديدة تجاه أي فكرة أو كلمة بهذا السياق، وأذكر في انتخابات البرلمان العراقي وجّهت رسالة مقتضبة حذّرت فيها من الزجّ بالشعارات والواجهات الإسلامية في هذه الانتخابات، فكانت مناسبة لدى أحدهم أن يحذّر من التأثّر بالأفكار العلمانية! وراح آخر يربط بين مفهوم (الإسلام السياسي) ومفهوم (الشموليّة الإسلاميّة) موهما أن كل ما يقال عن الأول فإنه بالضرورة ينجرّ إلى الثاني، وهذه في الحقيقة مباحث شائكة ومعقّدة بحاجة إلى نظر متجّرد وحوارات مطوّلة وعميقة، ولا ينبغي تناولها بهذه الطريقة السطحية التي تنظر إلى العناوين ولا تبحث في المضامين، وهي طريقة في التفكير لا تختلف كثيرا عن أولئك الذين يقيمون الحدود اليوم في سوريا والعراق بقطع السارق ورجم الزاني، فإذا اعترضت عليهم قالوا: هذه نصوص قطعية ومن أنكرها فهو كافر مخلّد في النار، مع الفارق بين الجهتين علما وتدينا وسلوكا.
إن جماعة الإخوان هي أكبر الجماعات الإسلامية في عالمنا العربي على الأقل، وهي بكل الأحوال لها حضورها وتأثيرها في مجتمعاتنا المختلفة، وبالتالي فليس من الصحيح أن تتبنى الجماعة ثقافة (النصح من الداخل)، فهذه المقولة خطأ دينيّ وخطأ اجتماعي وسياسيّ، فكل مسلم بل كل من يعيش على هذه الأرض له أن ينصح وأن ينتقد وأن يحلل ويستنتج خاصة إذا كان سلوك هذه الجماعة أو تلك له انعكاساته على المجتمع كلّه.
وفي المقابل فإن السعي لعزل هذه الجماعة ومحاصرتها بدعاوى واتهامات كيديّة هو سلوك لا يتّسم بالمسؤولية ولا يقدّر حجم الضرر والخلل الذي سيصيب المجتمع، في وقت نحن بحاجة فيه إلى التماسك لمواجهة الفتن التي جاءتنا من كل حدب وصوب، وإذا صحّت التكهّنات بوجود غض للطرف عن تقدّم الحوثيين في اليمن نكاية بالإخوان، فنحن أمام حالة كارثية أخطر من الخطر نفسه.
إنه لا مناص من الجلوس على طاولة واحدة، لفتح كل الملفات ومراجعتها بأمانة وصدق، فالشأن لم يعد شأن حكومة ولا شأن جماعة، كلنا في سفينة واحدة، ننجو جميعا، أو نغرق جميعا.
1035 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع