إبراهيم الزبيدي
مَن كان يخطر على باله أن كل ما كان يَبهرنا به الغرب، أوربا وأمريكا، من إيمان شديد وثابت يقدس الحرية والديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان، تكشفه لنا الشدائد، فنعرف أنه لمواكنيهم هم داخل بلدانهم، ولكنه، خارج حدودهم، كذب ونفاق، مصالحهم وحدها تتكلم، بلا مباديء ولا عدالة ولا أخلاق ولا ضمير.
يرفعون سيوف الحريات وحقوق الإنسان في زمن، ويغمدونها في زمن آ خر. يُسقطون بها (س)، وينصرون بها (ص).
لا تصحو حميتهم وغيرتهم على دماء الأبرياء إلا حين يذبح قاتل متوحش محسوبٌ علينا عربيا ومسلما واحدا من أبنائهم. عندها ودون انتظار تغير طائراتهم غاضبة مجلجلة هادرة تصب أطنانا من القنابل الحارقة على مواقع أتباعه ومخازن سلاحه، ثأرا للقتيل.
ولكنهم يتشاورون، ويتبادلون الأفكار، ويتدارسون الحلول، ويخرجون من مؤتمر ليدخلوا في مؤتمر، ومن اجتماع إلى اجتماع، أياما وأسابيع وشهورا وسنوات، ودماء رجالنا ونسائنا وشيوخنا وأطفالنا تتدفق، وأشلاء قتلانا، بمئات الآلاف، تتبعثر بين أنقاض البيوت المهدمة، والقاتل نفسُه يحرق أبناءنا وهم أحياء، وتبقى الجماهير (العريضة) في دولنا العربية تناشد مجلس الأمن الدولي، وحلف الناتو، والاتحاد الأوربي، والبيت الأبيض، والأمم المتحدة، ومنظمات حقوق الإنسان، ومجلس الأمن الدولي، أن يفوا بوعودهم بالعدالة والحرية وحقوق الإنسان، ويحترموا شرفهم وشرف شعوبهم، ولا من مجيب.
يقتلون داعشيين في (عين العرب)، وعلى حدود أربيل، وفي الموصل، وتكريت، والرمادي، بلا هوادة، بأطنان القذائف والصواريخ، ثم يدعون داعشيين في سوريا وليبيا يصولون يجولون ويتسلحون ويتمولون بحرية وأمان.
يعمْون تماما عما ترتكبه مليشات الحشد الشعبي من ذبح وحرق وتهجير ونهب في المدن التي يدخلونها بعد أن تخرج منها داعش، وتصمت أجهزة إعلامهم عنها إلا قليلا يتناثر هنا وهناك في بعض الصحافة الغربية أو منظمات المجتمع المدني الغربية، لرفع العتب.
ويسكتون تماما عما ترتكبه إيران، في العراق وسوريا واليمن والبحرين وفلسطين ولبنان، من عبث بأمن الشعوب، ومن تخريب لحياتها السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والأمنية، كدولة محتلة وغازية بمفهوم القانون الدولي .
والأغرب من الغرابة صمتهم عما يرتكبه نظام الملالي بأهل إيران من قمع وتكميم وتقطيع أيدٍ وألسنة ورقاب بما لا يختلف بشيء عما تفعله داعش من موبقات.
وفي سوريا، من ثلاث سنوات، تتساقط البراميل المتفجرة، وتستخدم الأسلحة المحرمة دوليا على المدنيين، وترسل دولة أجنبين حرسها الثوري ومليسات لبنانية وعراقية تابعة لها لمؤازرة الحاكم الأحمق على حرق المنازل ووتطيع الرؤوس والألسلنة والحناجر، وقادة الدول الغربية القادرة يرون ويسمعون ويطنشون.
وفي ليبيا، وكل أخبارها تصلهم بانتظام، تموت الناس بالمئات كل يوم بأسلحة تتدفق دون حساب، وتتمزق الدولة وتتحول إلى ماكنة تفريخ القتلة والجزارين، ولا يتحركون. ولا يكفون عن بيعنا حلو الكلام عن ضرورة الحوار باعتباره الخيار الوحيد، وعن الحل السياسي باعتباره، وحده، الكفيل بإنهاء (المشكلة). وكأن الذي حدث في ليبيا مجرد اصطدام سيارة بأخرى، أو عراك بين عابريْ سبيل.
بعبارة أخرى إن الداعشيين في ليبيا وحلفاءهم الإخوان وأنصار الشريعة فصائل (وطنية) لا يُسمح باستثنائها من الحكومة (الوطنية الموحدة). وبدون هذه الحكومة الوطنية الموحدة لا عون ولا دعم ولا مساندة لجيش الدولة الوطني، ولا لحكومته المعترف بها دوليا، ولا لبرلمانها المنتخب، وممنوع منعا باتا ونهائيا تسليح الجيش الوطني، لأنه يعقد الحل السياسي المنتظر.
يعني أنهم لا يقبلون بحل سوى أن تتنازل رقبة الليبي عن دمها وآلامها، وأن تبوس خنجر جزارها (الوطني)، حتى وهو لا يتوقف عن قطع العشرات من الرؤوس، ومئاتها، يوما بعد يوم.
وأمس، وبعد انتظار طويل، أعلنت ست دول غربية هي فرنسا وإيطاليا وألمانيا واسبانيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة أنها " لن تسمح بإلقاء ليبيا في ظلمات التطرف، ودانت بشدة أعمال (الإرهاب) في ليبيا".
وقالت في بيان " إن جريمة القتل الشنيعة لواحد وعشرين مصرياً في ليبيا على يد إرهابيين موالين لتنظيم (داعش) تؤكد مجددًا الضرورة العاجلة للتوصل لتسوية سياسية للصراع في ليبيا".
ثم أشارت إلى إن " العملية التي تقودها الأمم المتحدة لغرض تشكيل حكومة الوحدة الوطنية هي أفضل أمل لليبيين لمواجهة التهديد الإرهابي والتصدي للعنف ومعالجة عدم الاستقرار الذي يعيق عملية الانتقال السياسي والتنمية في ليبيا".
لاحظوا مقدار ما في هذا البيان من لؤم وخبث ونفاق. فقادة هذه الدول، أكثر من غيرهم، يعلمون علم اليقين بأن حلما من هذا القبيل يشبه كثيرا حلمي، أنا، الشخصي بأن أصبح ملكا على السعودية، أو رئيسا لوزراء السويد.
يريدون منا أن نستمر في جدل عقيم إلى يوم القيامة، هل الدجاجة من البيضة، أم البيضة من الدجاجة؟!.
في حكمهم حرامٌ على أحد أن يعطي الجيش الوطني الليبي بندقية لصيد عصافير. ولكن المباح والحلال والضروري أن تتدفق الأسلحة المدمرة المتطورة لداعش والإخوان وأنصار الشريعة، حتى ومخابراتهُم النائمة معنا في غرف نومنا تعرف مصادرها، وطرق توصيلها. هذه هي المعادلة.
طبعا ليس من الصعب على أبسط البسطاء من الناس أن يدرك أن هذا (الغرب) المتحضر والمتنور لن يسمح بأن تهدأ ليبيا إلا بعد جرجرة الجيش المصري إلى هذه المغطسة، لإشغاله وبعثرة جهوده وسلاحه ورجاله على الرمال الليبية الحارقة، مع استمرار النفخ في نيران الحرائق المستمرة في سيناء، والمد بأعمار القتلة المأجورين، وإبقاء حالة القتل اليومي لضباط الجيش المصري وجنوده.
فبعد أن تمكنوا من سحق الجيش العراقي والجيش السوري، لم يبق أمامهم جيش عربي قوي ومتماسك سوى الجيش المصري فليتبعثر ويدوخ ويضيع.
في مقابلة تلفزيونية ينقل الدكتور وسيم السيسي عن ديفيد بنغوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، قوله " إن قوة إسرائيل ليست في قنبلتها النووية، بل في قدرتها على تفتيت ثلاث دول محيطة بها، وهي العراق وسوريا ومصر، ونجاحنا في هذا الأمر لا يعتمد على ذكائنا بل على غباء الطرف الآخر". ورغم أنني لم أجد ما يعزز صدقية هذا النقل، إلا أن العقل السليم لابد أن يدرك أن هذا هو ما جرى، وأن هذا هو ما يجري. ولكن الفاعل الحقيقي ليس بنغوريون أبدا ولا أمريكا ولا غيرهما. عودوا إلى تاريخ المنطقة، منذ أوائل الخمسينيات وإلى اليوم، واستعرضوا الهزائم والحرائق والمجازر والمقابر الجماعية وخسائر الأموال والأرواح وخراب البيوت، ليس في العراق وسوريا وحدهما، بل في لبنان والكويت واليمن والسودان وفلسطين، بل في كل مكان آخر في المنطقة.
ألم يبدأ التقاتل والتناحر والتآمر والتخابر والتناثر في هذه الأمة على أيدي البعثيْن اللدوديْن، بعث العراق والبعث السوري؟
ولولا بعث العراق والبعث السوري هل كان الخميني وخليفته خامنئي وحرس ثورة الولي الفقيه وأحزابه ومليشياته العربية قادرين على أن يتجاسروا ويدنسوا تراب العراق، ويعبرون منه إلى سوريا ولبنان وفلسطين واليمن والبحرين؟ ولولا البعيون هل كان في إمكان هؤلاء المتاجرين بالطائفة والدين أن يجعلوا دولا كانت عزيزة وآمنة وناهضة وصامدة دولا فاشلة ومفلسة ودامية وفي طريقها إلى زوال؟. هل هذا كله فعله بنا بنغوريون؟ أشك في ذلك.
1088 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع